الجمعة، 17 أبريل 2015



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان







العربة الأخيرة

       كانت عربة الترام الأخيرة التى تتحرك من ميدان العتبة فى الساعة الواحدة والدقيقة الخامسة عشر بعد منتصف الليل إلى الجيزة .. ولم تكن تكتظ بالركاب .. قليل منهم يركب من الميدان وكثير منهم يركب فى الطريق ..
       وكانت هذه العربة تجمع خليطا عجيبا من الناس .. رواد الملاهى ودور السينما فى الحفلات الأخيرة .. وبنات الليل اللواتى يتسكعن على الأرصفة .. والسكارى الذين يقضون الليل فى الحانات .. والغلمان الذين يجمعون أعقاب السجائر فى أخريات الليل .. ثم عمال الترام الذاهبين إلى منازلهم ..
       وكان سائق العربة يتحرك من الميدان بعد دقة ساعة البريد ويمضى على الشريط وهو فى أقصى سرعته .. فإذا اقترب من ميدان الأزهر خفف من سيره قليلا .. فمن هنا يبدأ الركاب فى الصعود والنزول ..
       وكان الركاب متجمعين فى وسط العربة .. وقد جلسوا فى صمت .. فقد كان التعب باديا على وجوههم جميعا .. والسكارى منهم كانوا يصخبون فى أول الأمر .. فلما قرصهم برد الشتاء انكمشوا وعادوا إلى السكون ..
       وعذارى الليل اللواتى جلسن فى ركن من العربة .. كانت وجوههن ذابلة .. وعليها ضروب مختلفة من المساحيق .. وكان التعب باديا على وجوههن .. ومع هذا فقد كن يبتسمن ليقعن على صيد جديد ..!
       وكان السكارى إذا بصروا بواحدة من هاته النسوة واقفة فى المحطة .. يمدون إليها أعناقهم .. ويلوحون لها بأيديهم .. فإذا ركبت العربة صمتوا كأنهم ما رأوها من قبل ..
       وكان الترام فى شارع قصر العينى ينطلق مسرعا .. وتصفر عجلاته وتدوى فى سكون الليل .. وفى سرعة ينزل منه الركاب وفى سرعة يمضى ..
       وكان سائق العربة يقف وحيدا فى الجزء الأمامى منها .. فما من أحد يستطيع أن يشاركه موقفه فى هذه البرودة الشديدة .. كان يتلقى البرد كله وحده .. وكان الهواء يصفر فى أذنيه ويلفح وجهه .. فقد كانت العربة مكشوفة ولا زجاج أمامى لها .. وكانت يده تتحرك على المفتاح .. والطريق يلمع أمامه على ضوء المصابيح البراقة .. وكانت رأسه تدور كما تدور يده بالمفتاح .. فقد ترك والدته فى البيت فى نزعها الأخير .. ولم يكن يدرى من أين يأتى لها بمصاريف الدفن .. كان قد أتعب ذهنه طول النهار دون أن يصل إلى نتيجة ..
       وكان يقف فى المحطات ويتحرك منها بحركة رتيبة وهو شبه مذهول .. كانت يده تتحرك من تلقاء نفسها كأنما يحركها لولب .. وكان ذهنه قد كف عن التفكير .. وعيناه قد ثبتت على الطريق المقفر ..
       وكان الشارع يلمع فى أخريات الليل .. وظهر الكناسون وهم يدفعون المياه إلى البالوعات الجانبية .. ويتحركون فى صف طويل ..
       وكان البرد قد اشتد فى الساعات الأولى من الصباح فضم السائق معطفه على صدره وانطلق ..
***
       وكان يجلس فى هذه العربة يوسف النجار .. وهو سمسار عقارات فى الأربعين من عمره .. ضئيل الجسم مستدير الوجه أبرص .. أفطس الأنف ضيق العينين .. ولكنه كبير الرأس جم النشاط .. يظل النهار كله يلف على عملائه كالنحلة .. متنقلا من مكان إلى مكان .. فإذا هبط الليل نفض يده من هذا كله وذهب إلى حانة صغيرة فى شارع محمد على وجلس فى ركن مظلم وأمامه مائدة خشبية قذرة وزجاجة من الخمر .. وأخذ يشرب ويراجع فى ذهنه أعماله فى النهار فإذا أغلق الحان أبوابه خرج منه وكأنه ما شرب شيئًا .. وأخذ يضرب فى الطرقات كعادته فى النهار .. فاذا اقتربت الساعة من الواحدة صباحًا رجع إلى الميدان وركب الترام ..
       ولم يكن يوسف متزوجًا وليس فى تاريخ حياته كلها امرأة واحدة .. ومع هذا فقد كان سعيدًا قانعًا من حظه فى الحياة .. وراضيا عن نفسه كل الرضى .. لم يكن يتصور أن شيئًا ينقصه لم يدر بخلده هذا قط ..
       وكان إذا ركب الترام أكثر من التدخين وأطال الصمت ..
       وكانت تجلس أمامه نرجس كامل .. وهى امرأة فشلت فى حياتها الزوجية ثم احترفت الرقص فى شبابها الأول .. وأولاها الدهر ظهره فوجدت نفسها فى الشارع .. وأخيرًا أشفق عليها صاحب ملهى وجعلها عاملة فى شباك التذاكر .. وكانت تغلق الشباك وتذهب إلى المشرب وهناك تشرب لتنسى مجدها الآفل .. فإذا انتهى المرقص خرجت من الباب الخلفى إلى الترام الأخير .. وجلست وحيدة فإذا رأت شابا فى العربة نظرت إليه فى اشتهاء وألم .. إنها لا تستطيع أن تحصل على شيء الآن .. لقد ذهب هذا مع شبابها الأول .. كانت تحلم وهى جالسة وحدها بشاب قوى يأخذها بين ذراعيه ثم تستفيق على زمارة الكمسارى وتعود إلى نفسها ..
       وكان يجلس أمامها جمال الدين عاصم .. وهو مقامر محترف فى الخامسة والثلاثين من عمره .. طويل نحيل .. أقنى الأنف .. بارز الذقن .. عريض الجبهة .. حاد البصر .. قامر بكل شيء معه حتى بزوجته .. وانتقل من حانات الكورسال والبارزيانا .. إلى السلسلة والنجم الذهبى فى أقذر أحياء العاصمة وكان يقامر بالجنيهات ..فأصبح يقامر بالملاليم ..
       وكان وهو جالس ينظر إلى نرجس فى استهزاء وسخرية .. ويدخن بشراهة .. وكان خارجا من الحلبة خاسرا كعادته .. وكان يقابل الخسائر من قبل باستخفاف المقامر دائما .. ولكنه فى هذه الليلة شعر بقنوط شديد وبحالة من بلغ أعماق الهاوية ..
       وكان يجلس أمامه عباس الضو .. وهو نشال بارع فى العشرين من عمره .. خارق الذكاء بارع الحيلة .. وكان يستعرض الجالسين معه فى العربة وعلى شفتيه ابتسامة .. ويراجع فى ذهنه الحوادث التى مرت به طول النهار  والتى تدل على غفلة الجماهير وبلادة حسهم ..
       وكان يجلس إلى جواره عبد العاطى منصور .. وهو شيخ من الريف ضخم الجثة فارع القامة قدم القاهرة لبعض أعماله .. وكان فى مرقص صاخب وكان منذ ركب الترام لا يحول وجهه عن فتاة بيضاء لعوب جلست أمامه وبجوارها شاب هزيل أسمر يطارحها الهوى على مرأى من الناس ..! وكان الشيخ ينظر إليها ويقارن بينها وبين زوجته منيرة التى ذهب شبابها فى عمل البيت وتربية الأولاد .. ويتمنى أن يجدد شبابه بتمضية ليلة مع فتاة كهذه .. وشردت به الخواطر .. والضو يرقب شروده هذا بعين ساهرة ..!
       وكان يجلس أمامه زكى جاد .. وهو شاب فى الثلاثين من عمره .. مفلس دائما .. ضاحك أبدا .. كان آخر من يركب الترام من الميدان لأنه لم يكن يحسب حساب الزمن ولم يكن يدرى كيف تمضى به الحياة أو يمضى هو فيها .. كان آخر من يطوف بالقاهرة فى الليل وأول من يبكر فيها فى الصباح .. ومع هذا فما كان يؤدى أى عمل .. لأنه لم يكن يفكر فى هذا ومثله .. وكانت توافه الحياة وعظائم الأمور تستوى فى نظره .. كلها فى نظره توافه .. ولم يكن يأسف على شيء فى الحياة .. وملهاة الحياة كمآسيها تمران أمامه والبسمة المشرفة لا تبرح شفتيه قط ..
       كانت قد فرغت علبة سجائره .. فتناول سيجارة من الشيخ عبد العاطى وأشعلها منه دون أن يشكره .. ثم وجد أن المقامر ينظر إليها فى اشتهاء .. فأعطاها له وتناول غيرها من الشيخ وهو يضحك .. وكانت السيجارة فاتحة التعارف مع كل من بقى فى العربة .. فقد أخذ يحادثهم بصوت عال حتى تحولت إليه الأنظار .. وكانت له قصة يحب أن يحكيها لكل الناس وقد وجد الوقت مناسبا ليقصها على الركاب ..
       رفع وجهه وقال :
       - منذ سنوات كنت أدرس فى جامعة ليون .. وذهبت فى العطلة الصيفية إلى باريس .. ونزلت فى فندق من فنادق الدرجة الثالثة فى الحى اللاتينى .. وقابلت فى الفندق فتاة لم أعرف جنسيتها إلى اليوم ..! وقد جاءت إلىَّ بعد ثلاثة أيام من اتصالى بها تبكى وتقول بأنها حبلى وأنها ستغرق نفسها فى نهر السين لتتخلص من هذا العار وبسذاجة وغفلة صدقتها وأعطيتها كل ما معى من فرنكات ..!
       وضحك زكى .. وضحك الركاب ..
***
       واجتاز الترام مستشفى قصر العينى واقترب من فم الخليج وكان ينطلق سريعًا .. وقبل محطة فم الخليج سمع السائق صفارة الكمسارى تدوى فى الليل وبعدها صياح عال وهرج شديد .. فأدار المفتاح بسرعة وجاهد حتى توقف الترام ..
       ونزل السائق من العربة وجرى إلى حيث الكمسارى وجمع من الركاب يجرون إلى الخلف على الشريط .. وكان أحد الركاب قد سقط وهو يحاول النزول فى أثناء سير الترام وكان هو المقامر جمال الدين .. وتجمع عليه الناس .. وكان قد جرح ولكن جرحه لم يكن بالغًا ..
     وجاءت عربة الإسعاف وحملت الرجل ..
***
       ونزل الركاب جميعًا من العربة بعد الحادث ليقطعوا ما بقى من الطريق سيرًا على الأقدام .. ونزل يوسف النجار فيمن نزل .. وسار قدمًا فى الطريق .. وكان بطبيعته سريع الحركة جاد السير .. ولكنه سمع وقع أقدام خفيفة وراءه فتلفت فرأى امرأة تمضى سريعًا .. إنها واحدة من الركاب دون شك .. وتمهل حتى اقتربت منه .. ثم جاوزته .. إنها نرجس .. ومر فى ذهنه خاطر .. لماذا لا يحادثها .. ويدعوها إلى بيته إنها غانية من الغوانى فلماذا لا يفعل هذا كغيره من الرجال .. لماذا يقضى حياته وحيدا محروما من متع الحياة وملذاتها ..! ما لذة العمل وما جدوى الحياة إذا خلت من امرأة ..؟ لقد عاش حتى الآن فى صحراء جرداء .. لم يفئ إلى ظل واحة ولم يشرب من نبع صاف .. إنه الليلة ظمآن وفى أشد حالات الظمأ ..
       وكان فى خلال خواطره قد أحس بجسمه يضطرب .. وبأنفاسه تتلاحق .. وكان يقترب من نرجس ويبتعد عنها .. ويتقدم ويتأخر .. كانت تنقصه الجرأة .. وأخيرًا شعر بشيء قوى يدفعه إليها دفعا .. فانطلق حتى اقترب منها .. ونظر إليها وقال بصوت خافت :
-      مساء الخير ..
ونظرت إليه وحولت وجهها عنه .. كانت تتمنى أن تجد غيره ولكنه سار بجوارها .. وظل يحادثها وهى صامتة ..
وأخيرا قال لها :
-      سأعطيك كل ما تطلبين .. خمسة جنيهات .. عشرة .. وها هى النقود ..
ونظرت إلى الأوراق المالية وفتحت عينيها جدا ..
وأخيرا رافقته إلى بيته ..
***
جلست نرجس فى صالة البيت .. بعد أن خلعت معطفها .. ووضع يوسف أمامها مائدة صغيرة عليها زجاجة من الخمر .. وجلس يشرب معها ويتحدث .. وكان يود أن يتشجع ويطرد من جسمه برودة الشتاء .. وكانت تود أن تسكر لتنسى نفسها وتغيب عن وعيها .. ولا تعود ترى وجهه الدميم الأبرص ..
وكان هو ينظر إليها بعينين نهمتين شرهتين .. ويحدق بشدة فى نحرها العارى .. وجيدها وكل جزء من أجزاء جسمها .. كان كأنه يرى امرأة لأول مرة فى حياته .. وكان فى حركاته ما يبعث السخرية والاشمئزاز فى نفسها .. وكان لا يصدق نفسه .. أحقا أنه مع امرأة .. وبعد قليل سيضمها إلى صدره ويطفئ نار وجده .. ويشرب من شفتيها .. هلى سيحدث هذا حقا بعد كل هذه السنين الطوال من الحرمان والجدب ..؟
واستكثر على نفسه كل هذا واخضلت عيناه بالدمع ..!
وأخيرًا جثا تحت قدميها وأخذ يبكى ويغمر رجليها بالقبلات ..
***
كانت نرجس ثملة متعبة فى الليل .. واستيقظت قبل رفيقها فى الصباح .. ونظرت إلى وجهه بجوارها .. نظرت إلى وجهه وجسمه وصرخت ..! ان برصه ودمامته لا حد لبشاعتهما .. شعرت بتقزز شديد وغثيان مفرط .. ونهضت من الفراش مسرعة وصرخت .. وفتح عينيه ونظر إليها كالكلب الذليل وقال بصوت مرتعش :
-      ما الذى جرى ..؟
ونظرت إليه فى احتقار .. وكان جسمها كله ينتفض من فورة الغضب ..
وصاحت بأعلى صوتها :
- أيها الكلب القذر .. كيف تسوغ أن تقترب من امرأة ..؟ لقد قتلتنى .. لا يمكن أن أنسى هذه الليلة .. لا يمكن أن أنساها .. لا يمكن أن أمحو صورتك البشعة من خيالى .. خذ نقودك ..
وألقت فى وجهه بالورقة المالية التى أعطاها لها فى الليل وخرجت ..
ودفن وجهه فى الفراش وبكى ..
***
ولما ارتفعت الشمس ارتدى ملابسه وخرج إلى عمله .. ولكن بجسم غير جسمه الأول .. وبنفس غير التى كانت بين جنبيه .. شعر بتغير مطلق فى كل ما يحيط به .. وأحس بثقل الحياة ومتاعبها يحطان على صدره فجأة ..
ولأول مرة فى حياته يتردد وهو يقدم على عمل جديد .. ويشعر بالحيرة والارتباك وبأن الناس والعملاء على الخصوص يسخرون من دمامته ويستبشعونها .. فود لو غاصت من تحته الأرض ودفن فى الأعماق .. لقد رمته هذه المرأة اللعينة بسهم قاتل .. واستلت منه سكينة النفس .. والرضا بما هو كائن .. والقناعة بما تأتى به الحياة .. لم يذكر له واحد من عملائه قط أنه دميم أو أبرص .. ولقد نسى هذا كله باستغراقه فى عمله وكان يؤديه على أحسن وجه .. لم يكن هناك من هو فى مثل نشاطه ..
أما الآن بعد أن رمته الأقدار بهذه المرأة فقد قتلت روحه .. وتحطم إلى الأبد ..
***
مرت أيام ولم يستطع فى خلالها أن يعمل شيئا .. تغيرت نظرته للحياة ونظرته للناس .. وأصبح قلق النفس .. مضطربا صامتا .. حزينا حزن الخصيان الأبدى ..
كان يسير فى الطريق شاردًا كالمذهول ويود لو ينقلب النهار المبصر إلى ظلام دامس سرمدى لكى لا يرى أحدًا ولكى لا تقع عليه عين إنسان ..
كان يسكر وينام .. وقد وجد فى النوم خلاصه الوحيد من شر نفسه وشر الناس ..
***
وفى ليلة من الليالى تحرك من ميدان إبراهيم إلى الترام الأخير وكان ثملا .. وجلس فى ركن من العربة وأطرق .. وتحرك الترام ورفع عينيه .. وكانت أضواء المصابيح ترقص فى الطريق ..! كان فى أشد حالات السكر .. وكان غمام كثيف يزحف أمام عينيه .. وسقط رأسه على صدره وأغفى .. وتنبه على حس امرأة ففتح عينيه وتلفت .. إنه يعرف صاحبة هذا الصوت .. إن العهد بها لم يكن بعيدا .. ودار ببصره ثم حدق .. إنها نرجس .
ورآها واقفة فى الممشى الخارجى .. وكان الترام قد وقف فى المحطة فنزلت .. ورآها وهى تنزل فنهض من مقعده واندفع وراءها .. ولم يكن يدرى لماذا تحرك وإنما شعر بيديه فى الهواء كأنما تطبقان على عنقها .. كان يحمل لها حقدا دفينًا ..
***
وسقط على الأرض وهو نازل من الترام .. ولم يشعر به أحد .. فقد كان الركاب يستمعون بانتباه شديد إلى بطل العربة الدائم الأستاذ زكى جاد .. وهو يقص عليهم قصته الخالدة ..! قصة الفتاة التى استغفلته فى باريس ..!
ــــــــــــــــــــــ 
نشرت القصة فى صحيفة السوادى بالعدد 69 بتاريخ 19/1/1948 وأعيد نشرها فى كتاب " العربة الأخيرة " سنة 1948
ــــــــــــــــــــــ

رجل على الطريق
                          
          اشتغلت وأنا فى العشرين من عمرى فى شركة من شركات الملاحة بالسويس براتب تافه ، كنت أسكن بنصفه ، وأشرب بالنصف الآخر جعة ، ولا أحفل بعد ذلك بشىء فى الوجود ، وكنت أقيم مع أسرة إيطالية تسكن فى منزل صغير على شط القناة فى بور توفيق ، وتعيش عيش الكفاف ..
     وقد كانت الحياة شاقة على شاب فى مثل سنى ونشاطى فى هذه المدينة الصغيرة التى ليس فيها شىء سوى القناة ، ومنازل الشركة المتناثرة على الشاطىء ، وسكانها جميعا من الأجانب الذين وضعتهم الأقدار العجيبة فى هذا المكان ، ولاصلة تربطهم بالمواطنين ولا مودة ولا إخاء ..
     على أن ولعى بالمطالعة ، وحبى للهدوء ، خففا مما كنت ألاقيه من وحدة ووحشة فى هذه الضاحية . وكنت أذهب كل مساء إلى السويس لأشرب الجعة فى مشرب صغير ، وأتمشى فى طريق الزيتية .. ثم أعود إلى بور توفيق لأنام ..
     وكنت أجد على رأس الطريق الموصل لبيتى رجلا غريب الأطوار ،
يجلس على الحشـائش قرب القنـاة وبجواره كلب ضخم وزجاجة فارغة ..! وكان الرجل يجلس ينظر دائما إلى ناحية القناة ، ويخط باهتمام فى دفتر أمامه .. ويجلس هكذا معظم النهار ، فإذا غربت الشمس حمل متاعه ومضى ووراءه كلبه واختفى فى الظلام ..
     وكان موضع السخرية من العابرين فى الطريق .. وكان أكثر الناس سخرية به العمال الذاهبون إلى ورش الميناء .. وما كان الرجل يعبأ بسخريتهم أو يحفل بكلامهم .. كان يمضى فى عمله ولا يجيب ..
     ولعلى كنت الوحيد الذى يمر به فى الصباح والمساء ولا يسمعه كلمة نابية ، ولذلك كان ينظر إلىّ فى استغراب ودهشة . وكنت أخرج لأتمشى كل أصيل ومعى كتاب .. وأتخذ طريق القناة عادة .. وأجلس هناك على كرسى حجرى أطالع ، والرجل على مقربة منى يكتب فى كراسته ، ودنوت منه ذات مرة ، وجلست إلى جواره فوق العشب ، وحييته فحيانى بهزة من رأسه وهو يبتسم ، ومر مركب فى القناة فانحنى على كراسته وكتب شيئا فى تمهل وعناية ..
     فسألته :
     ـ ماذا تكتب ..؟
     فنظر إلىّ بوجه ضاحك وقال :
     ـ إننى أتلهى ..
     ثم أضاف وقد لمعت عيناه بعض الشىء :
     ـ لقد كنت ملاحظ " فنار " فى البحر الأحمر ، وكان هذا هو عملى فى النهار والليل .. أرقب السفن وأدون أسماءها ، وأنا أفعل هذا الآن بحكم العادة ، وأجد فى ذلك لذة تنسينى متاعب الحياة ..
     ـ لاشك أن العمل فى المنارة وسط البحر ممتع للغاية ..
     ـ جرب وسترى ..
     ثم شاعت فى وجهه ذى التجاعيد ابتسامة عريضة وسألنى :
     ـ هل أنت متزوج ..؟
     ـ لا ..
     ـ إذن فيمكنك أن تركب البحر إلى هناك .. ولا بأس عليك .. كتاب وفونوغراف ، وكل شىء سيمضى على سننه .. أما إذا كنت متزوجا فستعود من هناك نصف مجنون ..!
     ـ وهل اعتزلت هذا العمل من مدة ..؟
     ـ مدة طويلة جدا يا بنى .. منذ سنين وسنين ..
     وتغير صوته وأطرق .. فأدركت أنه تذكر شيئا يؤلمه .. فتحولت بوجهى عنه ، وأخذت أقلب صفحات الكتاب الذى معى حتى أقبل المساء ، فحييته وانصرفت ..
                                      ***    
     والتقيت به بعد ذلك كثيرا فى هذا المكان حتى توثقت بيننا مودة صادقة .. وكان الرجل مخمورا أبدا ، وما رأيته غير ثمل فى نهار أو ليل ، وكانت زجاجة الخمر معه لاتبارحه قط ، وكان ادراكه الصحيح للحياة قد جعله لايعبأ بشىء مما تواضع عليه الناس ، فهو يسكر وينام فى الطريق ..
     وما رأيته متبرما بشىء ، أو شاكيا من شىء ..
     ورآنى مرة فى حانة صغيرة فى مدينة السويس .. أتحدث مع زوجة صاحب الحان .. فلما انصرفت المرأة لعملها جاء وجلس إلى مائدتى ..
     وسألنى :
     ـ لماذا تسكر فى هذه السن ..؟
     ـ لأننى أشعر فى أعماق نفسى بالتعاسة
     ـ إن هذا أحسن جواب لسكير ..!
     ـ ولماذا النساء ..؟
     فصمت ولم أقل شيئا ..
     واستطرد هو :
     ـ انك تسكر لأنك وحيد .. ولا رفيق ولا أنيس لك فى هذه المدينة الكئيبة ، ومع كل مساوىء الخمر فإنها قربتك منى ولم تجعلك تسخر من ضعفى ، وأنا أشرب على قارعة الطريق فى بور توفيق ، إنك
تدرك الضعف الإنسانى لأنك إنسان ..!
     ـ إن هذا لايغير من نظرة المجتمع إلى السكير ..
     ـ هذا صحيح .. ولكنى أسكر رغم أنفى وكذلك أنت . وهناك شىء فوق إرادة الإنسان يربطنا بهذه الدنان .. وإن تشرب فى ساعة مظلمة من حياتك ثم تصحو .. إن هذا لاشىء .. ولكن النساء .. هذا شىء آخر .. إنك لا تستفيق من خمرهن إلا وأنت ساقط فى الهاوية ..
     وجاء له الساقى بكأس فشربها وعض على نواجذه .. ثم أشــعل لفافـة من التبغ ، وأخذ يسرح الطرف فى سماء الحان ..
     فسألته وأنا أنظر إلى وجهه وقد غضنته السنون :
     ـ لماذا تركت البحر ..؟
     ـ إنها الأقدار ..
     ثم صمت .. وأمسك بالكأس البللورية الفارغة .. ورفعها إلى عينيه كأنه يقرأ فيها من لوح الغيب .
     ثم سألنى :
     ـ أركبت البحر ..؟
     ـ ذهبت منذ سنتين إلى استامبول ..
     ـ أشاهدت منارات فى الطريق ..؟
     ـ أجل ..
     ـ سأحدثك عن قصة منارة من هذه المنارات ..
     ووضع الكأس البللورية على المائدة .. وأشعل لفافة أخرى وأقبـل
علىّ يتحدث :
     ـ كنت أعمل فى منارة بالبحر الأحمر منذ سنين .. وكان معى زميل لى يسـاعدنى على العمـل .. أمضيت شهرين فى المنارة وسط البحر .. ولا شىء تراه هناك غير البحر .. وكنا نطالع ونصطاد السمك ، ونسمع الفونوغراف .. وننير المنارة فى الليل للسفن ، ونغنى ونفعل كل شىء لنتلهى . ولكنك فى ساعة من الساعات تحس كأن شيئا يثور ويضطرب فى أعماق نفسك ، فتكاد تمزق الكتاب وتحطم الفونوغراف .. وتشعر بسأم .. وتضيق ذرعا بكل شىء .. وتحس بالاختناق .. وتنظر ولا ترى حولك غير البحر ، وبينك وبين الأرض سفر أيام ، فى هذه الساعات كنت أجلس على سلم المنارة وأدلى بساقى فى الماء .. وأحلم بعرائس البحر التى قرأت عنها فى الأساطير .. وأتصور أن واحدة منهن ستطلع وتجىء إلىّ .. وتمر سفينة من بعيد ، وأنوارها ترقص على الموج ، وأتصور أننى أسمع ضحكات نساء .. ورقص نساء .. وأرى بعين الخيال واحدة منهن تتجرد من ثيابها وتتهيأ للنوم ، فيأخذنى السعار .. وأظل أفكر وأحلم فى المرأة .. ولا شىء غير المرأة .. إنها تأخذ عليك مسالك تفكيرك ، وتشغل حواسك ، فإذا رأيت شيئا أبيض يلوح فى سفينة من بعيد تصورته ساق امرأة .. وإذا أبصرت شيئا ينثنى على سطح مركب تصورته امرأة .. إنك تراها فى كل شىء ولا تراها ..
     وكنت أنا وزميلى أحسن صديقين .. كنا نعمل فى صفاء ووئام .. وكان الطعام لابأس به ، ووسائل التسلية متوفرة .. أما إذا جن الليل وثارت الغريزة  فقد انقلب كل شىء إلى جحيم ..
     وكان صاحبى متزوجا وكنت أعزب ، وكان يحب زوجته ويحدثنى كثيرا عنها ..
     ومضت شهور ، واقترب موعد عودتى إلى السويس لأستريح فى الأجازة المقررة لأمثالنا ..
     وجاءت الباخرة التى ستقلنى إلى السويس ، وأعطانى صاحبى رسالة إلى زوجته ..
                                   ***     
     وأمضيت أياما فى السويس ، والرسالة موضوعة فى جيبى حتى كدت أنساها .. وفى أصيل يوم ذكرتها ، فاتجهت إلى بيت صاحبى وكان فى أقصى المدينة .. وتقدمت فى الشارع الضيق ، وشمس الأصيل تضرب رؤوس المنازل البيضاء بأنوارها الساطعة ، وكل شىء يسبح فى الضوء الباهر .. ووقفت أمام البيت ، واجتزت العتبة ، ورأيت فتاة فى مقتبل العمر تمسح الدرج وقد شمرت عن ساقيها .. ولما رأتنى توقفت عن العمل ، ونظرت إلىّ فى سـكون فاقتربت منها وسألتها وأنا مفتون بجمالها :
     ـ أهذا منزل عبد السلام أفندى ..؟
     ـ أجل ..
     ـ أريد أن أقابل زوجته ..
     ـ أنا زوجته ..
     فابتسمت وظهر على وجهى الارتباك ، فما كنت أتوقع أن تكون زوجة صاحبى صغيرة وجميلة هكذا ..
     رأيت أمـامى فتاة فوق العشرين بقليل ، خمرية اللون سوداء العينين .. جذابة الملامح إلى حد الفتنة .
     وعرفتها بنفسى وسلمتها الرسالة .. فأخذتها فى لهفة ثم ردتها إلىّ وهى تضحك وقالت بصوت ناعم :
     ـ أرجو أن تقرأها لى فأنا لا أعرف القراءة ..
     ـ وقرأتها لها فأشرق وجهها وزاد سرورها ..
     ثم طوت الرسالة وقالت وهى تشير إلى الداخل :
     ـ تفضل ..
     ودخلت وجاءتنى بعد قليل بكوب من الليمون ..
     وأخذت أحدثها عن البحر ، وعرائس البحر .. حتى أقبل الليل فحييتها وانصرفت وأنا جذلان طروب ..
***
     وبعد أيام التقيت بها عرضا فى السوق ، وكانت معها سيدة وفتاة أصغر منها قليلا ..
     وسلمت علىّ فى بشاشة وقالت :
     ـ لماذا لم تزرنا ..؟
     ـ سأزوركم طبعا ، قبل عودتى إلى المنارة ..
     ـ وقبل ذلك ..؟
     ـ وقبل ذلك .. !
     ـ سلم على أمى وأختى .. إنهما قادمتان من بور سعيد لزيارتى .. وقد حدثتهما عنك ..!
     وسلمت على أمها وأختها ، ومشيت معهن إلى البيت ، وبقيت معهن حتى ساعة الغداء ..
***
     وذهبت إلى الإسماعيلية ، وأمضيت فيها أياما .. ورجعت إلى السويس ، وفى أصيل يوم مررت بمنزل زينب زوجة صاحبى لأخبرها بموعد عودتى إلى المنارة حتى أعطيها فرصة لتعد بعض المأكولات لزوجها ، ووجدتها فى البيت وحدها ، كانت أمها وأختها قد سافرتا .. وشعرت وأنا جالس فى الحجرة بالسرور والارتياح .. وهذه مشاعر لم أستطع تعليلها ..
     وكانت زينب تلبس رداء أزرق بسيط التفصيل .. وقد صففت شعرها وعقدته جدائل فوق ظهرها ، وكانت تعصب رأسها بمنديل أزرق كذلك ، وفى عينيها كحل خفيف ، وعلى خدها الأيمن حسنة . ولما جاءت إلىّ بفنجان من القهوة ، ومددت يدى لأتناوله من يدها ، شممت من جسمها روائح الطيب ، فتنبهت حواسى ، ونظرت إليها وكأننى أراها أمامى لأول مرة ..
     ولأول مرة أشعر بقلبى يدق وأنا معها فى غرفة واحدة والعرق قد أخذ يتصبب على جبينى ..!
     ومالت الشمس إلى الغروب ، ونهضت لأنصرف فقالت وهى تنظر إلىّ :
     ـ لماذا أنت مستعجل ..؟
     ـ الليل قد أقبل ..
     ـ إن هذا أدعى لبقائك لأننى وحدى فى البيت ، فانتظر حتى تأتى خالتى أم اسماعيل ..
     وبقيت .. وظللنا نتحدث .. حتى مضت فترة من الليل ..
     ووجدت أمامى أنا الشاب القوى الذى يعانى مرارة الحرمان امرأة ناضجة محرومة مثلى ..
     كان فى نظراتها تكسر ولين ..
     وكان جسمها يروح ويجىء أمامى وهى فى أحسن مجاليها ، فأخذت أنظر إليها ، وأنا مستغرق فيها بحواسى ومشاعرى جميعا ، ونسيت أنها امرأة صاحبى ، نسيت هذا وذكرت أننى وحيد فى قلب الليل مع امرأة أشتهيها من كل قلبى ..
     ودون أن ندرى ما حدث كانت بين ذراعى وكنت أرتوى منها .
     وغرقنا فى النشوة فلم نحفل بأحد .
     وأصبحت أقابلها كل يوم ..
***
     ولما حان موعد عودتى إلى المنارة حملتنى هدية لزوجها ، وودعتها وفى قلبى جمرات من نار ..
     وذهبت إلى المنارة وأعطيت الهدية لصاحبى وسألنى عنها ، وكان يتلهف على كل كلمة يسمعها منى .. كان يحبها إلى درجة العبادة .. سألنى عن صحتها وأحوالها ، وأخذت أجيبه على مئات الأسئلة التى أمطرنى بها ، وكان من فرط ولهه يود لو يقبل يدى لأنها لمست يدها ..!
     وحل موعد عودته فتركنى ورحل ..
     وكنت فى خلال ذلك أعانى عذاب السعير ، وأتصورها بين ذراعيه فأكاد أجن ..
    وانتهت أجازته وعاد .. ورأيته يصعد سلم المنارة بعد غيبة ثلاثة شهور .. وكدت أنكره .. فقد تغير .. إذ ظهر على وجهه الشحوب والذبول وحيانى فى فتور .. ووضع متاعه فى جانب من المنارة .. وصعد إلى البرج .. وهو صامت ..
     وجلسـت بعد هذا أفكر وأسائل نفسى .. ما علة تغيره ؟ هل عرف ..؟ هل علم بكل شىء ..؟ ما أشد جنون المحبين ! إنهم يتصورون أن الناس لاتعرف عنهم شيئا .. وسيرتهم تدور على السنة الناس . إن الحب يعميهم عن ادراك الحقائق ..
     وكان عليـه أن يسهر فى البرج ، وعلىّ أن أنام لأحل محله بعد ذلك .. واستلقيت على الفراش ولكنى لم أنم .. كانت نظراته إلىّ ترعبنى .. وكنت أخافه .. كان أشد منى قوة .. فأغمضت عينى نصف إغماضة وسمعتـه يهبط السلم .. ويدور فى الغرفة الصغيرة حتى وقف على فراشى ، وتظاهر بأنه يبحث عن شىء وعاد إلى البرج ..
     وبعد ساعة سمعته يهبط السلم مرة أخرى .. ورأيته يتجه نحوى .. وكانت فى يده قطعة من الحديد .. إنه يود قتلى .. ودون أن نتبادل كلمة واحدة تشابكنا فى عراك دموى ، وظللنا نقتتل حتى لم تبق فينا قدرة على الحركة ، ورحت فى غيبوبة طويلة .. ولما فتحت عينى ونظرت إليه كان الدم يلطخ وجهه ، وكان صدغه قد تهشم من ضربة قاتلة .. فأدركت هول ما حدث وأغمضت عينى ..
***
     نمت على الأرض وهو بجوارى فاقد الحراك .. ونظرت إلى السماء فوقى ، وإلى البحر الصاخب من حولى ، وإلى الظلام الذى تضل فيه الأبصـار ، واستعرضت فى ذهنى صور حياتى إلى أن التقيت بصاحبى هذا .. وجمعتنى الأقدار معه فى عمل واحد .. وامرأة واحدة ..!
     وبكيت وماتت فى نفسى كل عواطف البغضاء .. وودت لو أفتديه بحياتى .. وأخذنى بعد قليل ما يشبه الدوار .. ثم فتحت عينى ، وتصورت أن الجثة تتحرك وأنها اقتربت منى .. وكنت مشلولا ولا أستطيع الحركة .. فتملكنى غيظ مستعر ، وجعلت أصر بأسنانى ، وأهذى كالمجنون ، وأصرخ بأعلى صوتى .. ولكن موج البحر كان أعلى من صوتى ..
     كان يزمجر وكنت أصرخ فيختلط الصـوتان معــا ويذهبان أباديد ..
    وظللت ساعة كاملة وأنا فاتح عينى ومعلق بصرى بالجثة .. وقد عجزت عن كل حركة .. وخيل إلىّ أنها انتفخت .. وأن وجهه يزحف عليه النمل .. والهوام ! وازددت كراهية لها ونفورا .. وخطر لى خاطر لماذا لا أدفعها إلى البحر .. وأتخلص من هذا العذاب ..
     وزحفت بجسمى كما يزحف الثعبان .. وحاولت أن أدفع صاحبى فلم أستطع .. فتمددت فى مكانى وبصرى إلى النجوم .. إن الليل مرتع للهواجس .. فإذا طلعـت شمس النهار ذهبت هذه الخواطر المرعبة أباديد .. ولكن متى يطلع الصبح ..؟
     لقد كنت أرتعش وأصر بأسنانى ، وأشعر بجفاف حلقى .. ولما صحت بأعلى صوتى كان صوتى قد انقطع .. فأغمضت عينى وأخذت أبكى كالأطفال .. وكنت كلما أغمضت عينى ازداد سمعى حدة .. وخيل إلىّ أننى أسمع صياح مردة فى برج المنارة وعواء ذئاب .. ووضعت أصابعى فى أذنى .. ولكن هيهات كان الصوت قويا ، وكان يجلجل فى البرج ..
     وارتعشت .. وتصبب العرق وأخذنى الدوار .
***
     ولما فتحت عينى ، كان النـور قد غـمر الكون .. وظللت طول النهار فى مكانى ، وأنا أتلوى من الألم والعذاب . . وكلما أدرت وجهى عن رفيقى .. عدت برغمى أنظر اليه وأرتعش .. حتى طار صوابى ..
     ومرت مركب فى المساء .. ولاحظت انطفاء المنـارة .. فاقتربت
وحملتنا .. هو ميت وأنا أشبه بالموتى ..
     وسجنت .. وخرجت من السجن .. وذهبت إلى كل مكان لأتلهى وأنسى .. ولكن صورة البحر بأمواجه وأشباحه والمنارة المنطفئة .. والزميل الراقد بجوارى لاتبارح مخيلتى أبدا ..
     إننى معلق هناك بخيط لايرى ..









=================================  
نشرت القصة لأول مرة بالمجموعة القصصية لمحمود البدوى " العربة الأخيرة " طباعة مكتبة مصر 1948
=================================  


الشيخ عمران

كانت عندنا فرس من كرام الخيل ، خرج بها الخادم إلى المرعى وعاد بدونها ، ولم نكن ندرى أسرقت منه وهو عائد بالخيل فى ظلمة الليل ، أم ذهبت على وجهها فى الحقول ..؟!.
وبحثنا عنها فى القرى والعزب المجاورة فلم نعثر لها على أثر ..
وأخيرًا رأى والدى أن يرسلنى إلى الشيخ " عمران " فى النجع .. ليبحث عن الفرس قبل أن تتسرب إلى السوق ..
وراح الخدم يخرجون الخيل .. وانطلقنا إلى النجع وقد انحسر الظل على دروب القرية ، وحميت شمس الضحى واشتد وهجها على الجسر . وكان معى خفيران من خفراء المزرعة ، مسلحان بأحدث طراز من البنادق ، فقد كان علينا أن نسير ساعتين على ظهور الجياد فى طريق مقفر يكثر فيه قطاع الطرق فى تلك المنطقة من الصعيد ..
وأخذ " مسعود " ـ أحد الخفيرين ـ يحدثنى عن الشيخ عمران حتى أفزعنى. فقد قص علىّ أنه كان ذات ليلة فى مزرعة بطيخ له ، فمر تحته قارب صيادين ، ورأى الصيادون بطيخ المزرعة الناضج ، فسولت لهم أنفسهم أن يقتربوا منه ، وأحس بهم الشيخ عمران .. وجاء بهم بعد أن أوثقهم بالحبال ، ثم صنع من لحومهم طعمًا للأسماك .. !
وكان فى ثورة سنة 1919 على رأس الرجال الذين عبروا النيل إلى قرية " الوليدية " فى أسيوط .. وكمن هناك فى النخيل قرب الخزان حيث يعسكر الإنجليز ، وأخذ يحصدهم حصدًا ..
ولما أراد العرب أن يعبروا الخزان ، أرسلوا إليه فتقدم ومعه رجلان إلى موقع المدفع الرشاش المصوب على الخزان ، وظل يطلق النار حتى سكت المدفع .. وأدير الكوبرى .. ومر العرب يقرعون الطبول ..
قص على مسعود هذا وغيره . وكنت أعرف الكثير عن الشيخ عمران ، أعرف أنه أشد الرجال بأسًا وأعظمهم جبروتًا ، وما من حادثة تحدث فى المنطقة بأسرها إلا يعرف سرها .. وما من رصاصة تطلق فى الليل إلا يعرف مصدرها .. إنه رجل رهيب ، إذا دخل قرية فى وضح النهار أرعبها وأفزع أهلها ، وإذا تنكر لقوم بطش بهم .. مسحهم من الوجود مسحًا . بدأ حياته كقاطع طريق صغير ، ثم تطور وعظم أمره ، وغدا أشد فاتك فى المنطقة وأعظم الرجال بطشًا ، كنا نسمع عنه الكثير من القصص المروعة ونحن صغار ، وشببنا عن الطوق وصورة هذا الرجل تملأ قلوبنا رعبًا ..
ولهذا ظللت طول الطريق أفكر فيه وأتمثله بعين الخيال ، رجلا فى طول المارد وبطشه ، له جسم ثور وقوة عنترة .. دائما مسلح ، دائما مقاتل ..
واقتربنا من النجع ، وكانت الجياد تتصبب عرقًا ، والتعب قد بلغ منا منتهاه .. ولاح لنا النخيل يطوق البيوت المبنية من الطوب الأسود ، ثم عيدان الذرة والحطب على السطوح ، والجريد والدريس والنواعير الخربة فى خارج البلدة .. والكلاب تنبح فى كل مكان ، إنها الصورة المكررة للقرية المصرية منذ الأزل ..
ولم نجد الشيخ عمران فى النجع ، بل كان فى جزيرة وسط النيل ، فتركنا الخيل فى النجع ، وركبنا زورقا إلى الجزيرة ..
***
وجدناه فى عريشة صغيرة على ربوة عالية فى طرف الجزيرة . ولقد ذهلت عندما رأيته ، كان رجلا متوسط الطول أقرب إلى النحافة ، مدور الوجه جامد الملامح ، ينسدل شاربه على فمه فى غير نظام ، جاوز الخمسين هادئًا ، ساكن الطائر . هل هذا هو الشيخ عمران الذى أرعب المنطقة قرابة ثلاثين عاما وما زال يرعبها .. ؟!.
رأيناه من بعيد جالسا القرفصاء وكان ينكت الأرض بعصا قصيرة ، ولم يكن يلقى باله إلينا ، ثم رآنا نصعد فى الطريق إليه فأرسل بصره ثم رده وعاد ينكت الأرض !! وكان يجلس فى ظل العريشة وحيدًا ... لم تكن حوله كلاب، وكيف تعيش الكلاب فى عرين الأسد ..؟!
وعرف مسعود ، ونظر إلىّ قليلا ثم قال :
ـ إبراهيم ابن الشيخ عبد الرحيم ..؟
ـ أجل ..
فرحب ، وفرش لى " زكيبة " وجلست بجواره فى الظل ، وعيناى لا تتحولان عنه .. لا ، إننى مخطئ .. إن نظرتى الأولى كانت عاجلة .. إن هذا الرجل ليس كالرجال ، إنه من طراز آخر ، إن له شخصية جبارة ..
وشربنا القهوة ، وحدثته عن الفرس ، فضحك وقال :
ـ لم يبق إلا هذا ..!
ثم أردف :
ـ لقد شرفتنا ، ونحن فى موسم الإيجار ، ولقد بدأنا فى جمعه فعلا ، وستحضر بنفسك تحصيل الباقى ، وتعود إلى والدك محملا بالمال ..
ابتسمت وشكرته . إن جمع الإيجار معناه أننى سأبقى مع هذا الرجل القاتل المطارد ثلاثة أيام أو أربعة فى هذه الجزيرة الموحشة ..
وتغدينا وأكلنا البطيخ ، وصرف الشيخ عمران الخفيرين وهو يقول لهما :
ـ قولا للشيخ عبد الرحيم إن إبراهيم فى ضيافتى وسأرافقه حين عودته إلى القرية ..
ومشى معى يطوف بالحقول ..
***
مررنا على مزارع البطيخ على شاطئ الجزيرة ، ورأيت الفلاحين يقفون خاشعين صاغرين أمام الشيخ عمران ..
كانوا فى أخصاص من " البوص " قائمة فى صف واحد فى نهاية الحقول .. لكل مزرعة خصها وكلابها ورجالها ، فإذا بصروا بنا نهضوا ، وزجروا الكلاب ، ودار الفلاح فى حقله يضرب البطيح بيده لينتقى لنا أحلاه وأنضجه .. فإذا رفضنا قال فى حماسة :
ـ إن هذا لا يصح .. إن هذا لا يصح ..
ولقد وجدت البطيخ مكوما فى أطراف الحقول ولا أحد يحرسه .. والمواشى ترعى الكلأ فى قلب الجزيرة ولا أحد وراءها.. ولم أر فلاحا واحدًا يحمل عصا ، ولا خنجرًا ولا بندقية .. إنهم جميعًا فى حمى الشيخ عمران ، وقد عجبت للهدوء الذى يخيم على الجزيرة .. إنها فى قبضة مارد جبار ..
وحدثته عن هذا ، فنظر إلى مليًا ، ثم قال مبتسمًا :
ـ إن كل شىء هنا حسن .. والشر يجىء لنا دائمًا من المدينة .. عندما يذهب الفلاح إلى المدينة ليبيع فى السوق ، يعرف الشاى الأسود " والتمباك " و" الحسن كيف " .. ويرى الذين يلبسون الأحذية ويقرعون بها الأرصفة ، والذين يركبون السيارات الفخمة ويخطفون بها خطفًا فى الطريق .. ويرى الذين يسكنون القصور وحولها البساتين .. ويرى الأنوار تتلألأ فى الليل ، والملاهى البراقة فى كل مكان .. يرى كل هذا ، فإذا عاد إلى قريته جر رجليه جرًا .. كان كمن ضرب على أنفه .. إنه يسأل نفسه وسط الظلام والقاذورات والحشرات ، وروث البهائم .. هل أنا كائن حى .. ؟ هل أنا مخلوق بشرى حقًا .. ؟ هل أنا من طينة هؤلاء ؟.. عاد والغل والحسد والحقد وصفات الشر كلها تأكل قلبه أكلا .. وأنت تراهم هنا وتحسبهم ملائكة ، لفرط ما تحسه من سكون يخيم على الجزيرة .. ولكنك لو تركت الحبل على غاربه يا بنى لأكل بعضهم بعضًا .. إنهم يحبون السرقة والسطو على زراعة الجار .. ويغشون ويخادعون ، ولو لم أكن معك الآن لألقوا بك فى النيل ، لأنك صاحب الأرض ، ولأنك كما يتصورون تأخذ من قوت عيالهم ..
فكرت فيما قاله الشيخ وقلت لنفسى :
ـ إنهم يفعلون ذلك كله تحت تأثير نير القرون .. ظلم أجيال وأجيال .. إن الفلاح المصرى يسرق ، ويخادع ، ويستريب نتيجة لحياة البؤس والاستبداد التى عاشها منذ آلاف السنين ، ولم يتنفس الصعداء إلا فى عهد العرب ..
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا .. ؟
ثم ماتت هذه الكلمات وعاد الرق والاستبداد كما كانا ..
وعدنا إلى العريشة نشرب القهوة ، ونودع الشمس الغاربة ..
***
ابتدأ النساء فى الجزيرة يخرجن من الأخصاص ، وعلى رؤوسهن الجرار ويتجهن إلى النيل .. رأيت سواعدهن البضة وهى تتحرك من بعيد ، وبعض وجوههن النضرة .. كن يمشين فى خفر أسرابا ، وكن جميلات فاتنات ..
ونزل الشيخ عمران إلى النيل وتوضأ .. ولما غربت الشمس صلى .. وعاد فجلس بجوارى صامتًا .. وكان الظلام يتساقط رويدًا رويدًا ..
وتعشينا ، وفرشوا لى لأنام . كان الشيخ عمران يود أن أنام داخل " الخص " ولكننى رأيت أن أنام فى العراء لأرى هذا الرجل الرهيب فى الليل ..
إنه لا يدخن ، وهو رجل قليل الكلام ، كثير الصمت ، وصوته ليس جهوريا ، ولكنه قوى آمر .. ولعل ذلك راجع إلى أنه تعود صيغة الأمر دائمًا فى حديثه مع الناس .. وهو فى الليل لا يغير ثوبه كما يفعل كثير من القتلة ، وإنما يظل كما هو لا يتغير فيه شىء .. تتركز حواسه كلها فى باصرتيه ويغدو خفيف الحركة ، سريع اللفتة ، يقظ السمع ، يرنو ببصره إلى بعيد ، لقد أدركت قوة بصره فى الليل وهو يرى من وراء الأبعاد ، ويخترق به حجب الظلام ، ويسمع أدنى حس ..
 كانت تمر تحتنا قوارب الصيادين ، وكان يسمع حركة المجاديف وهى مقبلة من بعيد ، فإذا اقتربت من رأس الحجر فى طرف الجزيرة صاح بصوته المرعب :
ـ من هناك .. ؟
ـ نحن يا عم الشيخ عمران ..
ـ ابتعد عن الحجر وخليك إلى الشرق ..
ـ حاضر ..
إنه لا يريد أن يقترب أحد من عرينه .. إنه قاتل ، والقاتل فى الصعيد دائما مطارد ، ولو عاش ألف عام .. وعندما يخور الشيخ عمران ويستضعف سيتمزق إربا .. ولقد خلف وراءه فتيانا أشداء ، وله أسرة مرهوبة الجانب ، وقد يعيش فى هذه الشيخوخة فى ظلها وعلى حسها .. وإن كان لا يزال شامخ الأنف ، لم يسقط فى حياته سقطة واحدة ..
شمل الظلام كل شىء ولفنا فى ردائه .. ونام من معنا من الفلاحين ، وبقيت ساهرًا مع الشيخ عمران .. لقد شعرت بطراوة الهواء ولينه ، وعمق السكون .. وكنت أود لو أتمرغ على الرمل وأنزل لأسبح فى النيل .. كان كل شىء ساكنا .. والطبيعة سافرة طليقة من كل قيد ، تشعر الإنسان بالحرية الصحيحة . كنت أشعر أننى قد تحررت من قيود المدنية الزائفة وأخذت أنظر إلى النجوم البراقة فى السماء ، وإلى الغياهب .. غياهب الليل .. وإلى النيل الجارى تحتنا ، وإلى مزارع النيل من حولنا .. وأتأمل وأفكر ..
إن الشيخ عمران يجلس على هذه الربوة وحيدا فى الليل ، وأولاده فى كل مكان . " معاذ " فى الماكينة ، و" سلمان " فى النجع ، و" عبد الكريم " فى الجبل ، ولكن أنفاسهم جميعا معه ..
وفى الهزيع الثانى من الليل ، رأيته يدخل العريشة ويعود وفى يده شىء ، إنها بندقيته .. وهى من طراز هندى ككل البنادق التى تراها فى الريف .. ولكنها فى يده شىء آخر .. وضعها بجانبه واستلقى وعينه إلى الغرب .. وضعت رأسى على الفراش وحاولت أن أنام ، فالشيخ عمران ساهر علينا جميعا ، ولكننى لم أنم ، وظللت أراقبه .. تحرك ، ومد البندقية .. وأطلق .. أطلق فى الهواء .. وسمعت صوت الطلقة وطاف بذهنى شىء .. لقد تذكرت ، سمعت صوت هذه الطلقة فى الليل من قبل ، كانت طلقة واحدة تنطلق فى ساعة معينة بعد نصف الليل .. وكنا نسمعها ونحنُ فى أجران العزبة ، ونصيح فى صوت واحد :
" الشيخ عمران !.. "
إنه ظل على عادته يرسل هذه الطلقة كل ليلة .. طلقة واحدة ليس إلا ، ثم يضع البندقية تحته وينام ..
اعتمدت بمرفقى على تل من الرمل ، وأقبلت أتحدث معه . أخذ يحدثنى عن مغامراته فى الليالى السود ، والمعارك الدامية التى تحدث فى القرى على لا شىء .. وحوادث السرقة فى وضح النهار ، والزمن الذى تطور ، وطوى معه كثيرا من القتلة فى الريف .. كان حديثه طليا ساحرا يستغرق الحواس كلها ..
طلبت منه أن يحدثنى عن أول حادثة قتل فى حياته ، فتجهم وأطرق طويلا .. لقد نبشت دخيلة نفسه .. إنه يتذكر ..
رفع رأسه وقال فى صوت متغير :
ـ سأحدثك يا بنى ...
وأطرق مرة أخرى ، ثم رفع رأسه وقال :
ـ كان ذلك منذ سنين طوال .. كنت فى صباى ..
وكان والدى يحب أن يزوجنا صغارًا ، فزوجنى من ابنة عم لى ، على عادة العرب فى قصر زواجهم على الأقارب .. وكانت صغيرة .. وكنا قد شببنا معا ، ورعينا الغنم معا ، فكان حبى لها قويا .. وكان كل شىء فى الحياة يمضى رتيبا ثقيلا .. لم تكن الحال كما تراها الآن آلات للرى ، وزراعة ، وعمران ، بل كان جدبا شديدًا وفقرًا شاملا ، كنا نعيش من بيع الملح .. نجىء به من الجبال ونبيعه فى القرى النائية .. وكنت أطلب الرزق أينما وجد .. فلم يكن من السهل على رجل فى مثل شبابى ورجولتى أن يتبطل ..
وكان هذا الفقر يدفع العرب إلى السلب والنهب ، وقطع الطريق على الناس ..  فكانت الحوادث تترى ، والرصاص يدمدم فى كل ساعة ..
وحدث أن أغار جماعة من العرب على مزرعة واستاقوا مواشيها ، وقتلوا خفيرا من خفرائها .. وجاء الجند ، وعلى رأسهم ضابط طوقوا النجع .. وبدأوا يفتشون فى بيوتنا لأنها فى اعتقادهم وكر الجريمة ..! وكنت غائبا ، ودخلوا بيتى وفتشوه ..
 وسأل الضابط « جميلة » زوجتى :
ـ أين زوجك ؟ .. 
ـ مسافر يا سيدى منذ شهور يجرى وراء معاشه ..
ـ ومن الذى وضع هذا فى بطنك إذن .. ؟
ووضع أصبعه على بطنها ، وكانت حبلى « بمعاذ » ..
فعل هذا وخرج .. وصعقت المسكينة .. وطار الخبر فى كل مكان .. وعدت من سفرى وسمعت بما حدث وأنا فى الطريق .. ودخلت البيت ولكننى لم أحادث جميلة ولم أر وجهها .. وتناولت بندقيتى وخرجت .. وذهبت عند صديق لى فى الجبل ، ومكثت عنده أياما .. وحاولت خلال ذلك أن أتناسى ما حدث ، ولكننى كلما تمثلت الأصابع وهى موضوعة على بطن زوجتى أستطير خبلا ، وأكاد أمزق نفسى ..
وتركت البندقية عند صاحبى ، وخرجت متنكرا أطوف حول « النقطة » .. ورأيت خير ما أفعله أن آخذه ، وهو خارج للدورية ، بعيدًا عن النجع والقرى المجاورة لنا ..
وخرجت فى ليله سوداء لا أنساها ما عشت ، ففى هذه الليلة تقرر مصيرى يابنى ، ورسم القدر خط الحياة لى .. وكانت ليلة من ليالى الشتاء ، ضريرة النجم شديدة البرد ، وكانت معى بندقيتى وخمسون طلقة ، وكنت على استعداد لأن أقاتل جيشا بأسره ، وأفتك بكل من يعترض سبيلى حتى ولو كان أبى ..
كانت ثورتى جامحة ، وغضبى لا يصور ..
وكمنت فى زراعة قصب ، وانتظرته وهو مار على ظهر جواده فى الطريق.. وجاء .. وصوبت وسقط ..
وأطلق العساكر النار ، ولكن طوانى الليل ..
وبت هذه الليلة فى بيتى ، واستطعت أن أقابل « جميلة » .
وصمت الشيخ عمران قليلا ثم أضاف :
ـ بعد هذه الليلة يا بنى تغير فى كل شىء ، وجدت شيئا جديدا يعتمل فى داخل نفسى ، واستطعمت رائحة البارود ، وأصبحت حياتى كما تعرف وترى .. وأنت لا تستطيع أن تغير الدم .. الدم الجارى فى عروقك ، أو تمحو أثر البيئة ، وأنت تتعلم وتتهذب وترقى ، ولكن دمك سيظل عربيا لأنك ولدت فى النجع ونشأت فى النجع ، وفى هذا الجو الطليق عشت ، وتنفست أول نسيم للحياة .. 
وصمت الشيخ عمران وتركنى لأنام ..
مضى وحده فى الظلام ، فقد سمع نباح كلاب شديد ..
***
بعد قليل عاد إلى مكانه ، وكانت الكلاب قد كفت عن النباح ، وعاد السكون . وكانت النجوم تهوى فوقنا متعاقبة ، والظلمة شديدة ، والماء يجرى تحتنا ويهدر .. ومن ساعة إلى أخرى كنا نسمع صوت رصاصة تنطلق فى الجو. لابد من هذا فى الريف ، كان صوت الرصاص مألوفا عند الفلاحين ..
بل لعلهم يأتنسون به أكثر من صوت الكلب ، وصوت الإنسان ، ويشعرون بالوحشة عندما يشتد السكون ..
غلبتى النعاس ، وصحوت والشمس تغمر وجهى ، ولم أجد الشيخ عمران..
وسألت عنه فقيل لى : إنه ذهب إلى النجع ..
ورأيته بعد ساعة مقبلا من بعيد يمشى تحت وهج الشمس .. ووراءه ابنه معاذ .. معاذ الذى يحرس « الماكينة » بذراع واحدة .. فقد ذهبت ذراعه الأخرى فى حادث .. كان وهو غلام فى « الماكينة » ومعه أخوه الأكبر .. وذهب أخوه إلى القرية ليجىء بشىء ، وتركه وحده .. فهجم عليه اللصوص فى الغروب .. وظل يقاتل .. واخترق الرصاص ذراعه ، ومع هذا لم يستسلم ، ولم يستطع أحد أن يقترب منه ، أو يمس حديدة فى « الماكينة » .. هذا هو معاذ ، إنه من دم عمران ومن صلبه ، كان يجىء إلى قريتنا كثيرا يحمل الإيجار، ويحاسب على الأرض ، وكنا نعرفه جميعا .. وكان إذا تأخر واحد من إخوتى فى الليل ، أو بات فى الأجران ، سأل والدى عن الذى معه .. فإذا عرف أنه معاذ اطمأن وكف عن السؤال .. كنا نسميه « أبو ذراع » وكان واسع الحلم طيب المشعر .. فإذا غضب انقلب أسدًا ..
حيانى معاذ وجلس .. وبعد قليل تحركت ذراعه .. ودفع يده فى جيبه وأخرج صرة ناولها لى وهو يقول وعلى شفتيه ابتسامة :
ـ هذا إيجار زراعات الماكينة جميعا ..
ـ جمعته كله يا معاذ ..
ـ أجل ..
ـ ولم يبق أحد .. ؟
ـ ولم يبق أحد ..
ونظرت إليه ، وكان يبتسم وعيناه تلمعان .. إنه صورة من والده . نفس النظرة القوية .. ونفس الملامح الصارمة . ونفس الشخصية الجبارة التى تفرض نفسها على من حولها ..
جمع الشيخ عمران باقى المستأجرين ، وشغلت طول النهار بتحصيل الإيجار، وفى المساء وضعنا الأوراق المالية والفضة فى كيس كبير أعطيته للشيخ عمران فوضعه فى العريشة أمام الجميع .. !
وهبط الليل ، وكنت قد تعبت طول النهار ، فنمت فى أول الليل وصحوت على صوت طلقة .. لم تكن الطلقة التى تعودت سماعها من الشيخ عمران .. طلقة تذهب فى الهواء تدمدم .. لا .. إنها طلقة مكتومة .. رصاصة أصابت جسما واستقرت فيه .. فتحت عينى وتلفت حوالى .. لا أحد بجوارى غير عمران .. كان على قيد خطوات منى ، نائما على بطنه ويده تعمل فى البندقية .. لقد أخرج الظرف وألقى به بعيدًا ، ولما أحس بى ، وعرف أنى صحوت ، قال وهو يبتسم :
ـ لا شىء .. إنه ثعبان ! .. 
ـ أقتلته ؟ ..
وصمت ولم يقل شيئا ، وظل وجهه مبتسما ، ويداه تعملان فى البندقية .. ثعبان .. ؟
 تلفت مرة أخرى .. أرسلت بصرى إلى رأس الحجر كان هناك شىء أسود وفتحت عينى جيدًا ، وتفرست فى الظلام ، وتملكنى الرعب .. إنه رجل نصفه فى الماء ، ونصفه على الأرض .. وقد منعته الحجارة من أن ينجرف مع التيار ..
ولقد جاء بعد أن عبر النيل فى زورق أوسواه ليقتلنى أو ليقتل الشيخ عمران ، ولكنه انتهى فى لحظة واحدة وما أحس به إنسان ..
ونظرت إلى الشيخ عمران .. نظرت إلى هذا الرجل ، وحاولت أن أقرأ على وجهه شيئا ينم عن فعلته ، شيئًا يدل على أنه قتل نفسا بشرية ..
ولكنه على حاله .. لم يتغير فيه شىء .. إنه هادىء ساكن ، وما نبض فى جبهته عرق ، ولا إختلجت شفة ، ولا اهتزت يد .. أى قلب .. !  وأى أعصاب ! ومن أى طينة هذا الرجل .. إننى إذا ضربت خادما بعصا فى ثورة غضب ، أظل طول الليل أتململ فى فراشى ، والندم يأكل قلبى ، ولا أعود لنفسى إلا إذا طلبت من الخادم أن يصفح عنى .. أما هذا الرجل فهو يقتل إنسانًا .. ولا تتحرك فيه جارحة ، ولا يظهر على وجهه شىء .. أى قلب ..! وأى أعصاب .. ! .
بعد قليل تحرك ، ومشى إلى رأس الحجر .. مشى متمهلا ، ورأيته يدفع الرجل العالق بالحجر برجله .. وذهب الرجل مع التيار ..
وعاد عمران إلى مكانه كما كان أول الليل .. كأن لم يحدث شىء ..
***
فى أصيل اليوم التالى ، غادرنا الجزيرة إلى النجع ، وبعد أن استرحنا ، وشربنا القهوة فى مضيفة الشيخ عمران ، أمر بإعداد الركائب ، وكان هو وابنه « معاذ » سيرافقاننى إلى قريتى ..
ولما خرجت إلى الساحة ، وجدت فيها ما أدهشنى .. وجدت فرسنا التى سرقت مسرجة ومعدة لركوبى ..! ونظرت إلى ذلك الرجل الجبار نظرة امتنان وشكر .. سأعود الآن إلى قريتى مرفوع الرأس وكل ذلك بفضله . ولقد علمت أن معاذًا جاء بالفرس منذ يومين وكتموا عنى الخبر لأفاجأ هكذا ..
وركبنا نحن الثلاثة وخرجنا من النجع .. وكان الشيخ عمران يركب حمارًا وكذلك ابنه ، ولهذا سرنا متمهلين نقطع الطريق بالحديث والتندر مع معاذ .. وكان دائم المرح حلو الدعابة ، لا يكف عن الضحك ولا يعير باله لشىء فى الوجود وهو الرجل المقطوع الذراع . وكانت وجوهنا إلى الشمس ؛ فلما غربت تنفسنا الصعداء ، وأسرعنا فى السير ، وكان الطريق على عادته مقفرا وكل شىء فى سكون .. وأخذ الظلام يشتد ويلف كل شىء فى ردائه الأسود ..
وكنا كلما أوغلنا فى السير زاد السكون ، واشتدت الوحشة فى الطريق .. وقطع هذا السكون دوى رصاص شديد انهمر فى غير انقطاع مرة واحدة ، واستمر عدة دقائق .. فتمهلنا فى السير ، وأمسكنا بالبنادق وقلت للشيخ عمران وأنا أتسمع :
ـ عرس فى القرية ..
فقال وهو ينظر إلى ومض البارود :
ـ إنه ليس بالرصاص الذى يطلق فى الأفراح ، إنه شىء آخر  ..
انقطع صوت الرصاص ، وخيم السكون من جديد .. وظللنا نرقب .. ورأينا من بعيد خطا أسود يزحف إلى الغرب ..
 ومددنا أبصارنا وتبين الخط الأسود .. وضح ما فيه .. إنها ماشية تساق سراعًا فى طريق غير مألوف .. وخلفها وأمامها رجال مسلحون .. لقد سرقوا هذه المواشى من القرية ، واشتبكوا مع الحراس فى المعركة التى سمعنا دويها .. ثم تغلبوا عليهم وهاهم قد أفلتوا بالماشية يسوقونها سراعا ..
وترجل الشيخ عمران ، وأشار علينا بالنزول .. ترجلنا وبحثنا عن مكان نربط فيه الركائب ، ووجدنا ساقية خربة .. فربطناها فى ترسها وأخذنا نرقب.. تحول الرجال بالماشية إلى طريق آخر ، ومضوا فى الظلام وابتدأ عمران يعمل بسرعة .. تناول بندقيته ومضى فى أثرهم .. ولما هممنا بالذهاب معه ، رفض .. وحلف على معاذ بالطلاق أن يبقى معى فى الساقية ولا يتركنى حتى لو قتل .. وبعد أن تنتهى المعركة بخير أو بشر نستأنف السير إلى القرية ..
وخرج الرجل وحده ، رأيناه يمضى سريعا كما يمضى الليث فى الظلام ..
وبعد قليل سمعنا الرصاص يدمدم .. ابتدأ عمران يقاتل وحده .. أخذت بندقيته تزأر .. إن له طريقة فريدة فى القتال ، كما أنه رجل فذ فى كل شىء ..
واستمرت المعركة حامية مدة .. ثم انقطع صوت النار .. وخيم السكون ولاحت لنا أشباح تتحرك .. تتحرك فى اتجاهنا .. إنها المواشى .. وها هو عمران وراءها يسوقها .. لقد خلصها من اللصوص وحده ..
ودخلنا بالمواشى المسروقه القرية ، واستقبلنا أهلها استقبال الفاتحين .. وكان عمران يسير فى المؤخرة وحده .. مطرق الرأس ، متواضعا كأنه ما فعل شيئًا ..
==============================  
نشرت القصة فى ص . أخبار اليوم ـ العدد 109 فى 7/12/1946 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " العربة الأخيرة " سنة 1948 وفى كتاب " قصص من الصعيد " من اعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2002
============================== 





















زهور ذابلة

     غادرنا الجيزة تلك المدينة الفقيرة الكئيبة ، وانحرفت بنا السيارة فى طريق طويل على جانبيه الشجر ..
      وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب وبدت المزارع والجداول ومن ورائها الأهرامات .. أشد شىء أخذًا فى تلك الساعة من النهار ..
     وكانت السيارة من سيارات نقل الموتى .. كانت طويلة وأنيقة ومن أحسن طراز .. وكانت مقسمة إلى ثلاثة أقسام .. القسم الأمامى منها للسائق، والخلفى للميت ، والوسط لأهل الميت ، وفى هذا المكان جلست وحيدًا مكروبا ، وعيناى سابحة فى الأفق ..
      وكانت الجلسة فى السيارة مريحة ، ولكن أعصابى كانت متوترة ، وكنت أشعر بضعف جسمانى شديد ، فلقد مرت علىّ أيام ثلاثة لم أذق فيها النوم إلا قليلا ..
      كنت أحمل العبء وحدى .. ولقد بذلت كل ما فى وسعى ، وبذل معى الأطباء لننقذ أحمد ، ولكن نفذ القضاء ، وذهبت جهودنا كلها هباء ..
     انتهى فى الساعة الرابعة من الصباح ، ولم ينبس بكلمة ، وكنت بعيدًا عنه .. وجئت لزيارته فى الصباح ، ومعى باقة من الورد وزجاجة من العطر ، وكان يحب الورود والرياحين .. ودخلت غرفته على أطراف أصابعى كعادتى .. ولكننى وجدت سريره خاليًا .. فأدركت أن كل شىء قد انتهى ..
     وسمعت من يقول :
     ـ حدث له نزيف داخلى ..
     وهكذا انتهى وهو أشد ما يكون شبابًا وفتوة ، انتهى فى الساعة التى بدأت فيها الحياة تبسم له بعد طول عبوس ، وتتطلع عيناه إلى الحياة السعيدة بعد طول جهاد وعناء وكد .
     ولقد أخذ فى أيامه الأخيرة يكثر من الكلام ، على الرغم من طبيعة الصمت التى لازمته وكان يقول لى :
     « إن المرء لا يعرف قيمة الحياة إلا إذا رقد على هذا السرير .. إن هذه الرقدة تكرهك على التفكير .. والتفكير فى الأشياء التى لم تكن تخطر لك على بال .. والمرء بعد المرض يزداد صلابة وقوة وعزما ، وتعمق نظرته للحياة ، ويصل به التأمل إلى أعمق أعماقها ، لقد كنت أفزع من وخزة دبوس .. وأنتفض فرقًا من لا شىء .. فلما رأيت هؤلاء المرضى الأبطال الذين يتعذبون فى صبر وصمت ، أدركت نعمة الصبر التى تنزل على الإنسان فى محنته .. وأخذت أخجل من نفسى عندما كنت أتألم من لا شىء كطفل صغير .. والألم يصهر النفس ويخلصها من الأدران ، وأنت لا تعرف نعمة النفس المطمئنة إلا إذا رقدت هذه الرقدة .. هنا تصفو نفسك من الشهوات وتدرك أن كل شىء باطل .. كل شىء زائل .. نفس يخرج ولا يرتد ثم ينتهى كل شىء .. إنه حقًّا شىء مروع ، ولكن لا بد أن ينتهى بنا المصير إلى هذا ...... » .
     وتحولت بعد هذه الخواطر إلى المروج المحيطة بنا ، وكانت السيارة تخطف خطفًا .. والغسق يزحف والنهار يولى ..
     ما أعجب الحياة .. وما أعجب الموت .. نفس واحد يخرج ولا يرتد ثم ينتهى كل شىء ... هكذا ... أخذت أدير كلام صاحبى فى رأسى وأذكر الصور التى مرت علىَّ فى المستشفى ..
      كان هناك رجل فى الغرفة المجاورة لغرفته .. وكنت أرى هذا الرجل كلما ذهبت لزيارة أحمد ، وفى أصيل يوم كان باب غرفته مفتوحًا ، وكان الرجل راقدًا فى سريره ، وعلى رأسه ابنته .. وكان يتحدث إليها بصوت عال ، وهو مفتر الثغر طروب .. وبعد دقائق قليلة سمعت حركة فى غرفته ، ودخل الطبيب وبعده الممرضة ، وخرجت الممرضة وفى يدها حقنة فارغة .. ! وبعد لحظات عاد السكون إلى الغرفة .. وانتهى ميعاد الزيارة .. وفى طريقى إلى الخارج سمعت الفتاة تبكى .. وتلفت .. وتقدمت نحو غرفة الرجل .. فوجدته على حاله كما رأيته من قبل ولكنه لم يكن يتنفس..!
     وكانت السيارة تتمهل قليلا ، وهى تجتاز بعض القرى .. وكان القرويون يتطلعون إلى السيارة ، فإذا أدركوا أنها من سيارات نقل الموتى ، ذكروا الله وترحموا على الميت .. ولقد رأيت فى هذه الوجوه من العواطف الإنسانية ما جعلنى أنسى كل ما لقيته فى المستشفى من عناء ونصب .
     إن العاملين فى هذه المستشفيات قد تجردوا ، كما خيل إلىَّ ، من كل عاطفة بشرية .. يستوى فى ذلك الطبيب المتعلم والممرض الجاهل .. والسرير عندهم أغلى من الراقد عليه ، وهم ينقلون الميت من سريره إلى غرفة الموتى ، ويتنفسون الصعداء ، وكأنهم يرمون بكلب أجرب إلى الطريق ..
     إنها الحياة فى تلك المستشفيات ، الحياة التى لا تعرف الرحمة ، الحياة التى تسحق الضعيف والفقير سحقا ..
***  
     وقفنا عند مقهى صغير فى الطريق ، ونزل السائق ليشرب الشاى .. فهو وإن كان فى شرخ شبابه وريعان صباه ؛ ولكنه سيسهر طول الليل .. وسيقود السيارة فى تلك الظلمة الشديدة اثنتى عشرة ساعة وقد تزيد ..
     وعاد إلى السيارة وقد عصب رأسه واستعد لليل .. وكان هادئًا قوى الأعصاب قليل الكلام .. ولعله تعود ذلك بحكم عمله .. وكان ينهب الأرض نهبا وكأنما يسير بالسيارة على بساط معلوم .. وقد استرحت إلى صوت السيارة وحسها فى الطريق ..
      وأرسلت عينى إلى الليل الساكن ، وإلى الريف الحزين ، وكنت شبه نائم ، واسترحت إلى هذا السكون ، وإلى نسيم الليل ، وإلى الوحشة الشديدة .. فما اعترضتنا سيارة ، ولا رأينا ظل شبح فى الطريق..
      كان الطريق مقفرًا ، والليل رهيبًا موحشا ، وكل شىء يبعث على السكون ، إنها سيارة الموتى وكل شىء ميت فى الطريق ..
     وكنت أستفيق من ذهولى على صوت جندى المرور فى النقط ، وما أكثر هذه النقط فى الطريق .. كان يعترض السيارة وبيده فانوسه الأحمر :
     ـ كل شىء تمام يا أسطى .. ؟
     ـ كل شىء تمام يا أفندم ..!
     وتحركت السيارة ..
***
     وأغمضت عينى .. وكنت أود لو أنام كما ينام قريبى فى الجزء الخلفى من العربة ..
     ولعلى غفوت .. فقد تنبهت على حركة السيارة وهى تقف عند نقطة من نقط المرور .. وكان هذا الجندى فارعا ، أسود كالليل .. ودار حول العربة ، ورفع مصباحه فى وجه السائق ، وطلب التصريح .. ثم قرأه .. وطواه ورده إليه .. ودار حول العربة مرة أخرى .. ! وفتح الطريق فى تثاقل ..
      وتحركت السيارة ، وسمع السائق من يهتف به فلم يتوقف ، فأشرت عليه بالوقوف .. فوقف .. وسمعنا من يقول :
     ـ من فضلك خذ هذه الست معك إلى سمالوط ..
     وكان رجلا من الفلاحين .. وخلفه امرأة على رأسها متاعها .. ولم يرد عليه السائق وظل صامتا .. ولما اقترب الرجل من العربة ، وأدرك أنها من عربات الموتى .. أظهر أسفه وهم بالانصراف ..
     فقلت للسائق :
     ـ خذها بجوارك ..
     وركبت المرأة .. وانطلقت بنا السيارة ..
***
     وكانت المرأة جالسة فى الركن الأيمن من المقعد .. أمامى .. وكانت صامتة ، ولم أستطع أن أتبين من جلستها سوى أنها طويلة القامة .. وكانت طرحتها السوداء تغطى رأسها وعنقها ومنكبيها .. وكان النور فى المقعد كابيا.. وجلستها معتدلة ، فلم أستطع أن أقرأ صفحة وجهها ..
     وكان السائق قبل أن تجى المرأة قليل التدخين .. فلما ركبت بجواره أشعل سجائر كثيرة .. وبدت على يديه دلائل التوتر .. وابتدأ يتكلم ..! ورأيته ينظر إليها نظرة جانبية سريعة ثم عاد إلى الطريق .. واجتزنا قنطرة ، ثم مررنا على جسر من الجسور فسار عليه مسرعًا ، وأدركنا بعد مسير أكثر من عشرة أميال أننا ضللنا الطريق ، فارتد وعلى وجهه دلائل الغضب .. ولما بلغنا قرية من القرى توقف ، وأمر المرأة بالنزول ..
     فسألته :
     ـ لماذا .. ؟ 
     ـ أنا سائق لعربة الموتى يا سيدى ولا أحب أن تجلس نساء بجوارى .. ! 
     ـ ولكن أين تذهب هذه المسكينة فى هذا الليل .. ؟ .
     ـ وراءنا سيارات كثيرة .. . وهذه ليست عربة للركاب ..
     قلت له أخيرًا :
     ـ دعها تركب بجوارى ..
     ففتح لها باب المقعد من الناحية اليسرى .. وصعدت المرأة وهى صامتة وتحركت السيارة ..
***
     وجلست المسكينة منزوية فى العربة ، وقد غطت وجهها كله ، واتجهت إلى النافذة المفتوحة .. وبدا لى أن أرفه عن نفسها لما نالها من كلام السائق ..
      فسألتها :
     ـ أنت من سمالوط .. ؟
     ـ لا .. يا سيدى .. أنا رايحة لأختى عند نخلة أفندى ..
     قالت هذا فى صوت ناعم ، وفى سذاجة أزاحت الهم عن صدرى .. وجعلتنى آنس بها ، وأكثر من الحديث معها ..
     وأدركت وأنا أتحدث مع هذه المرأة ، لماذا يجتمع الناس فى الجنازة ويعزون أهل الميت .. ؟ فقد تحملت ثقل الحزن وحدى ، ولم أجد فى المستشفى صديقا ولا رفيقا بل حانوتية فى كل مكان .. يساوموننى على نقل قريبى كأننى سأشحن بضاعة إلى السوق ..
     ولما سألتنى عن أحمد وعرفت أننى أحمله إلى أبيه وأخته ، وهى فى مثل سنها اخضلت عيناها بالدمع .. فأغرورقت عيناى .. ووددت لو أمسح بيدى على ذراع هذه المرأة وألمس خديها .. ثم أدفن صدرى فى صدرها وأبكى ..
     وتراجعت إلى الخلف ، ورأيت وجهها لأول مرة ، وهى تنظر إلىَّ فى سكون وحزن .. كانت جميلة وصغيرة .. وقد بدا يعصرها الفقر .. حزن بارز على الشفة ، وجوع واضح على الخدين ، ووجه لوحته الشمس فى الحقل أو فى الطريق .. لم أكن أدرى ..
     كانت تنظر إلىّ بعينين ذابلتين .. وتحاول أن تصل بهما إلى أطواء نفسى ، ولكننى وجدت نفسى مرة أخرى أغيب عنها ، وأرسل البصر إلى الليل ..
     وأخذت أرقب النجوم وأفكر .. إننى الآن فى عربة .. وبجوارى فتاة ريفية فى مثل جمال الفجر .. وهى تنظر إلىّ ، وقد يكون فى نظرتها اشتهاء .. ولكننى بعيد عنها ، وإن كنت أقرب شىء إليها .. بعيد عنها بجسمى ونفسى أفكر فى الموت .. وما بعد الموت .. والزهور الذابلة فى الحديقة .. والأوراق التى تتساقط من الشجر .. وأحمد الذى بينى وبينه نافذة زجاجية صغيرة .. فإذا فتحتها ، ربما طالعتنى رائحة كريهة ، عفن الموتى .. ما أعجب الحياة .. الشاب الذى كنت أحادثه بالأمس ، قد غدا اليوم جيفة .. !
     ونظرت إلى متاعه الذى وضعناه بجواره .. ووددت لو أقهقه ، وأجلجل بصوتى ، وأقطع هذا السكون العميق ، وفى هذا التيه من الخواطر المحزنة تنبهت على حركة شديدة فى محرك العربة .. وخفت سرعة العربة .. ثم وقف المحرك ..
***
     ونزل السائق ، ودار حول مقدمة العربة .. ثم انحنى ورفع الغطاء .. وأخذ يعالج تلك الآلة الدقيقة .. وبعد دقائق قليلة كان عرقه يسيل ، وظهر على وجهه اليأس ..
     وأخذت الهواجس تدور فى رأسى .. ماذا يحدث .. لو تقطعت بنا السبل ، وبقينا فى هذا المكان إلى الصباح .. وكان السائق ينظر إلى الطريق يمينا وشمالا وهو حائر ..
      ورأينا نور سيارة من بعيد .. واقتربت وكانت من السيارات الكبيرة المتجهة إلى القاهرة .. ولوح لها السائق بيده فتوقفت ونزل سائقها .. ونظر فى محرك العربة ، وأدرك العلة .. وركب معه سائقنا إلى مغاغة ليجىء بمن يصلح السيارة .. وبقيت وحيدًا مع المرأة فى هذا الليل ..
***
     بقينا صامتين مدة طويلة .. وكنت مضجعنا ، ومرسلا بصرى إلى سقف العربة .. وكانت هى مائلة إلى النافذة ، ومطلة برأسها على الطريق .. لم تكن تتحرك .. حتى يخيل للناظر إليها أنها نائمة .. ما أشد سكون هؤلاء القرويات وما أحلى وداعتهن .. أى سر فى الحياة ..
     بعد أن بارحنا السائق بلحظات ، ووجدت نفسى وحيدًا مع هذه المرأة .. سرت فى جسمى رعشة .. ووجدت الدم يتدفق فى عروقى من جديد .. ونسيت المرض والحزن .. والموت .. هل كنت أتمنى هذه اللحظة ، وأنا فى غمرة هذه التعاسة المرة ، وهذا التعب الجسمانى البالغ .. ؟ ربما .. فقد شعرت بعد أن تركنا السائق أن حملا قد انزاح عن صدرى . وأن الفاصل الذى كان يحجب عنى هذه المرأة قد أزيل .. ونسيت الموت .. وصاحبى الراقد خلفنا فى العربة .. نسيت كل شىء يتصل بهذا ، واتجهت بكليتى إلى هذه المرأة ، وكانت قد رفعت رأسها وواجهتنى ..
      ونظرت إلىّ .. وعاودتنى الرعشة من جديد .. وابتدأ العرق ينضح على جبينى .. واقتربت منى وقالت فى صوت خافت ..
     ـ أخائف .. أنت .. ؟ 
     فقلت لها بصوت يرتعش :
     ـ أبدا ..
     ومددت يدى دون وعى ، كانت يدى تزحف فى الظلام كالعنكبوت ..
      ـ يدك ساخنة .. !
     ولم أقل لها شيئًا .. وتركت يدى فى يدها .. وأغمضت عينى ..
      ـ مالك انت محموم ..؟
     أنا محموم ..! كان العرق يسيل من جسمى كله .. وكنت أرتعش .
     ومرت يدها على يدى وذراعى .. ووجدت يدى تمسح على ذراعها .. وشعرت بنعومة بشرتها تحت ملمس أصابعى .. وأحسست بجسمى يتخدر .. وسكنت الرعشة وجف العرق .. وانحدرت يدى عن ذراعها .. وكأنى كنت فى غيبوبة ورجعت إلى نفسى ، وبحركة لا شعورية .. مددت رأسى ونظرت من النافذة .. إلى صاحبى .. وكان فى نعشه وعليه الغطاء الحريرى .. هل تصورته تحرك ، ونظر إلينا ..
     ووضعت يدى على جبينى ، وملت إلى النافذة ، وابتعدت عن هذه المرأة ..
     وبعد قليل عدت أفكر فيها من جديد وكانت قد وضعت رأسها على كفها ، ومالت إلى الوراء ، وأغمضت عينيها .. إنها تحاول النوم ، أو تحاول الإغراء ..
     هل تحاول هذه القروية معرفة ما يدور فى رأسى .. إننى محطم الأعصاب من طول ما لا قيته من عناء فى الأيام الماضية ، وكنت أود رفيقا أو أنيسا فى الطريق ، وقد وجدت هذه المرأة .. وجدتها رفيقى وأنيسى عندما كانت السيارة تسير ونورها يخطف البصر فى الطريق .. ولكن بعد أن توقفت السيارة، وأطفئت الأنوار .. انقلبت عنصر شر لى .. وزادتنى عذابا وألما .. فجلست بجوارها قلقا مهتاج الأعصاب ، لا أستقر على حال وأخذت أهز ساقى وأحاول أن أصرف ذهنى عنها ، ولكن هيهات ..
      كانت روحى قد تخدرت وتقمصنى الشيطان .. وبدا لى أن خير ما أفعله هو أن أتحرك ، ففتحت باب السيارة .. فأحست بى ..
     وسألتنى فى جزع :
     ـ إلى أين ..؟
     ـ سأتمشى قليلا ..
     ـ لا تبتعد ..
     ـ أتخافين .. ؟
     ـ أنا .. أبدًا .. وإنما أخاف عليك من الذئاب ..؟
     ونزلت وكانت تنظر إلىَّ بجانب عينها وتبتسم فى خبث ظاهر ..!
     ـ الذئاب ..!
     وضحكت ..
     لقد أفلت من يدها .. وشعرت بعد خطوات قليلة بالراحة التامة وفعل نسيم الليل فى الصيف ، والهواء الطلق فعل السحر فى جسمى ونفسى ..
***
     وعاد السائق وأصلحت السيارة ونزلت المرأة فى سمالوط .. وتنفسنا الصعداء وانطلقت بعدها السيارة بأقصى سرعتها ليعوض السائق ما فاته .. وبلغنا منفلوط قبل أن يتنفس الصبح ..
***
     ووقفت بنا السيارة أمام منزل الميت .. وصعدت ومعى الحقيبة التى فيها متاعه ، واستقبلتنى أخته فى نهاية الدرج ، وكانت فى لباس أسود ، ولكنها لم تكن تولول أو تصيح ..
      كان حزنها دفينا صادقا .. شددت على يدها وتهالكت على أريكة قريبة ، وأدرت عينى فى المكان باحثا عن أبيها ..
      وعرفت نظرتى وقالت بصوت مفجوع :
     ـ إنه نائم .. جاءته برقيتك وهو فى فراشه ومن وقتها لم يتحرك .. وقد أخبرت الشيخ عبد الحفيظ .. وأعد كل شىء ..
     ولم أعجب لذلك فقد كنت أعرف عنه الكثير .. ورفعت عينى إلى أمينة التى عاش من أجلها أحمد ، ولأجلها ضحى بكل شىء ، لأنه كان يعرف أن والده ميت حى .. لقد غدت امرأة .. الفتاة التى كانت تصنع لنا القهوة فى ليالى الامتحان قد اكتملت أنوثتها . وجمعت كل مفاتنها ولقد زادها الثوب الأسود جمالا ..
     ونظرت إليها وقلت بصوت حزين :
     ـ أيقظيه فالوقت متأخر ، والسائق يجب أن يعود بالسيارة قبل ..
     ولما سمعت كلمة السيارة أجهشت بالبكاء .. وكان فى ناحية من البيت بعض النسوة فتركتها لهن ، ودخلت على أبيها فى فراشه ، وكان نائما على سرير من الحديد .. وتحته لحاف قذر كله حروق حمراء مستديرة .. وكان بجواره منضدة صغيرة عليها بقايا تبغ محترق .. وآثار قهوة فى فنجان .. ثم زجاجة فارغة من الخمر .. وكأس مقلوبة .. وآثار خمر على الأرض .. وفى الفراش .. وكان منظر الحجرة كريهًا ..
     هذه هى حجرة مصطفى أفندى وهو فى فراشه .. كل شىء يبعث على الاشمئزاز .. حجرة سكير .. غارق فى الخمر إلى الأذقان .. ووقع نظرى على الدوائر الحمراء فى اللحاف .. وهو نائم عليه دون حس أو حركة .. إنه يدخن وهو مضطجع .. ويغلبه النعاس فتسقط يده بالسيجارة على الفراش ..
     ووضعت يدى على عاتقه وهززته بقوة فتحرك بعد لأى .. وقام كأنه يجر إلى المشنقة .. متثاقلا متخاذلا.. واعتمد على ذراعى ، ونزلنا إلى الشارع ولما رأى السيارة انتفض .. ودب فى جسمه نشاط عجيب ، وأخذ يولول وينوح..! وجمع علينا القرية بكل من فيها من رجال ونساء ..!
***
     وعدت من المقبرة إلى المنزل وقد بلغ منى الجهد .. ونمت نوما متقطعا وحلمت أحلاما مزعجة .. وكنت كمن أصيب بالحمى .. فذهل عن كل شىء وأخذ يهذى .. ويطلب الماء فى كل دقيقة ، وفى جوفه أتون مستعر .. وأتت إلىّ أمينة بمنديل سقته بالخل وعصبت به رأسى .. فقد أصبت بضربة شمس ..
     وفتحت عينى فإذا الليل قد أرخى سدوله على القرية .. وكان العرق قد تفصد من جسمى كثيرًا فشعرت بعده بالارتياح والانتعاش والعافية ..
      ورحت أسترجع كل ما مر علىّ فى الأيام القليلة الماضية .. ثم تحركت من فراشى ، ونظرت من النافذة إلى الحقول وكان السكون يخيم ، والقرية ساكنة ، وسمعت حسا وحركة .. فأصغيت ..
      سمعت صوت أمينة كانت تتحدث فى صوت خافت يشبه الهمس ، ثم ارتفع صوتها ، ووضح صوت أبيها واشتد بينهما الكلام والعراك ، وسمعتها تنتحب ، فجريت نحوهما فوجدت والدها واقفا على سلم البيت وبيده شىء ، والفتاة تشده منه بقوة وهو يجاذبها فيه بعنف ، ويصيح مهددًا ..
      وكان أحمر العينين أغبر السحنة ، ولما بصر بى صمت فجأة وترك ما فى يده ، ووقع بصرى على ما كان فى يده ، إنها بذلة أحمد التى حملتها معى من المستشفى .. !!
     وضمتها أمينة إلى صدرها وأخذت تنشج .. ووقف هو مشدودًا إلى الأرض فاغرًا فاه ، وهو لا تكاد عينه تطرف ، ونظرت إليه فى قوة ، إنها بذلة أحمد وهو ذاهب بها إلى السوق ليبيعها ، ويشترى بثمنها زجاجة من الخمر ..
      نظرت إلى هذا الرجل الذى يقف الآن ذليلا أمام شاب فى سن ابنه ، لأنه يدرك شناعة فعلته ، ولكنه لا يستطيع أن يملك من أمر نفسه شيئًا .. لم تعد له إرادة على الإطلاق ، إنه الضعف البشرى ، إنها الإنسانية المعذبة .. نظرت إليه فى وقفته الذليلة هذه .. وتذكرت فى الحال أبطال دستويفسكى العظيم ..
     وكنت أود لو أمسك بيد أمينة وأقول لها .. اركعى معى أمام والدك المسكين .. السكير .. كما فعل رازكو لينكوف أمام امرأة سقطت .. وقبلى الإنسانية المعذبة فى شخصه .. إن والدك ليس فظا ولا حقيرًا ولا جشعًا كما تتصورين ولكنه لا يملك من أمر نفسه شيئًا ..
***
     انسحب مصطفى أفندى من أمامنا ، وأخذت أحادث أمينة حتى كفت عن البكاء ..
     واستيقظت فى الصبح على صوت أمينة وهى تبكى .. وعلمت أنه غافلها وأخذ البذلة .. وعاد ومعه زجاجتان من الخمر .!
     ودخلت عليه حجرته فإذا به مستغرق فى نوم عميق كما شاهدته أول مرة ، وفى اللحاف آثار حروق جديدة .. ! ورائحة الخمر تنبعث من كل مكان فى الغرفة .. !
***
     وبعد ساعة كنت أركب سيارة صغيرة إلى المحطة ، لنأخذ القطار السريع إلى القاهرة .. وكانت بجوارى أمينة .. كانت صامتة ، ولا تزال فى ثوبها الأسود .. وفى عينيها بقية من دمع ، ولكن وجهها كان يشرق ويغمر نفسى نورًا ..
================================= 
نشرت القصة فى مجلة كليوباترا 16/9/1946 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص " العربة الأخيرة " لمحمود البدوى عام 1948 وبمجموعة " قصص من الصعيد " فى سنة 2002 من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر بالفجالة
================================