الجمعة، 17 أبريل 2015



البواب الأعرج

     عندما ضرب الألمان مدينة الإسكندرية بالقنابل ليغرقوا الأسطول الإنجليزى .. ضربوا منطقة البحر ضربا شديداً ..
      وأصابت القنابل عمارة ضخمة فى شارع الكورنيش ، فهوى طابقان منها ، وطارت بعض شرفاتها ، وتناثر زجاج نوافذها..
      ومع هذا فقد خرج سكان العمارة من المعركة سالمين .. فقط أصيب بوابها .. أصابته شظية فى قدمه اليمنى خرج بعدها من المستشفى يعرج .. ورضى الرجل بحكم القدر ، واستسلم للمصير المحتوم ..
      وعاد يجلس على الدكة فى مدخل العمارة كما كان يرقب الداخلين والخارجين بعينى الذئب الجائع ..
     وكان معظم سكان العمارة فى أيام الحرب من الجنود الإنجليز ، وكان منظرهم فى ملابسهم الرسمية ، وما يحدثونه دائماً من ضوضاء وجلبة فى غدوهم ورواحهم ، يثير السخط فى نفس البواب ..
     كما أنه كان ينظر إليهم دائما بعين الكراهية .. لأنهم كانوا السبب فى بلواه .. فلولا وجودهم فى هذه المنطقة ما ضربت العمارة ، ولا أصابته الشظية ..
      فلما أنتهت الحرب وغادر الجنود العمارة تنفس « عثمان » البواب الصعداء وشعر بأنه عاد يتنفس فى جو من الحرية كما كان منذ ست سنوات .. على أن عرجه زاده انطواء على نفسه ، وبعداً عن الناس ..
     كان سكان العمارة جميعاً يعرفون أنه يكره النساء .. فلا يحب أن تجلس الخادمات على دكته .. كما أن واحدة منهن لن تجرؤ على دخول غرفته ..
      وكان يتضايق أشد الضيق حتى من سيدات الأسر ، وهن جالسات على الدكة فى انتظار المصعد ..
      وكان أشد الأشياء على نفسه أن تكلفه امرأة بعمل .. قبل العرج وبعده ، كان ينطوى لهن على بغض شديد ، لم يكن يعرف مأتاه ولا مصدره .. مجرد وجودهن فى ممشى العمارة ، أو على بابها ، أو بالقرب من غرفته .. كان يجعله ينفعل ، ويتغير ويكاد يثور .. وهو لا يدرى لذلك سبباً ..
***
     وفى صباح يوم علم أن الشقة رقم 4 فى الدور الأرضى بالعمارة ، قد أجرت إلى أسرة من القاهرة مدة الصيف ، فحمل المكنسة ونظفها ، وأغلق نوافذها ..
      وجاءت الأسرة فى قطار الظهر ، وكانت مكونة من سيدة وسيد ولا ثالث لهما .. وفتح لهما البواب الشقة وحمل الحقائب من السيارة .. وأشفقت السيدة على الرجل ، ففتحت حقيبتها الجلدية الأنيقة وأعطته ريالا فحنى رأسه وخرج .. ولأول مرة رأته السيدة يعرج .. !
     وفى أصيل اليوم نفسه رآهما البواب يخرجان ويتمشيان فى طريق البحر .. وكانت السيدة أنيقة وجميلة وصغيرة .. والسيد رجلا فى الأربعين حسن الملبس مليح القسمات .. ولما عادا من نزهتهما ، كان البواب جالسا فى غرفته ..
      وسمع صوت السيدة وهى تصيح :
     ـ يا بواب .. يا بواب ..
     فلم يتحرك .. وبعد قليل رآها واقفة على بابه تنظر إليه بعينيها الناعستين ..
      وتسأله :
     ـ أنت اسمك إيه .. ؟
     فرد عليها بصوت منفعل :
     ـ عثمان ..
     ـ تسمح تفتح لنا الباب .. ؟  مش راضى ينفتح ..
     ونهض فى تثاقل ، وهو يرميها بالنظر الشزر .. وفتح الباب .. وعاد إلى مكانه ، ورأى السيدة تقابل نظراته الشزراء بنظرات ناعمة متكسرة .. فازداد غيظا وحنقا ..
***
     فى الصباح حمل للسيدة حاجتها من السوق ..
     وكان يروح ويجىء فى الطريق مرات ومرات ولا يشعر بتعب .. !
     وفى كل يوم كان يفعل ذلك ..
     وفى الضحى كان يحمل المظلة والكراسى إلى البلاج ، ويسير وراء السيدة كالكلب الأمين .. ! وينصب لها المظلة ثم ينصرف ..
     وقد شعر على توالى الأيام بأنه تغير ، ولم يعد يثور لأتفه سبب ، ويحتد على الخصوص وهو يحادث النساء ..
     لقد تغير وتغير .. ! وأصبح ينام نوما عميقا فى الليل ، ويستيقظ مبكراً فى الصباح ، ولا يحس بضربات قلبه ، وثورة دمه .. كلما سمع صوت امرأة .. لقد عاد إلى سكينة نفسه ..
      وذات يوم نزل إلى البحر ليرجع المظلة كعادته ، فلم يجد السيدة جالسة تحتها تقرأ فى كتاب كما اعتاد أن يراها .. ودار ببصره ورآها مقبلة من بعيد فى لباس البحر ..
     ولأول مرة يراها هكذا شبه عارية ..!
     وأحس بمثل النار تسرى فى ألياف لحمه .. وأدار رأسه ..
     ولما ارتدت ملابسها حمل المظلة ومشى وراءها ، ولأول مرة يجد نفسه ينظر إلى جسمها من الخلف ويعجب بمفاتنه .. وأخذه مثل السعار ودخل معها الشقة وهو يرتجف ، ووضع المظلة ، ومشى إلى غرفته .. وأغلق بابها ..
***
     كان ينام فى غرفته ، فأخرج فراشه ونام به على الدكة ليقترب من بابها ويرى النور وهو يطفأ فى غرفتها ..
      كان يتقلب طول الليل فى فراشه ويتسمع وقع أقدامها .. ويصغى إلى صوتها وهى تحادث زوجها .. زوجها الذى يعود من سهراته متأخراً دائماً وغالباً ثملا ... وغالباً مقامراً ..
     وفى كل أصيل كان يراها جالسة فى غرفتها المطلة على البحر ، وكان يقف عند الحاجز الحديدى على الكورنيش ، ووجهه إليها وعيناه لا تتحولان عنها .. وكانت تدخن وترمى بأعقاب السجاير من النافذة ..
     فإذا غربت الشمس اقترب من النافذة ، وجمع هذه الأعقاب ومضغها بشراهة ونهم ..
      وكان يحس بلذة عنيفة تهز كيانه كله ، وبمثل الإعصار يحمله ويدور به .. ويود لو ينحدر من النافذة ، ويحملها بين ذراعيه ويمضى بها فى الظلام ..
     وكان يحلم بها فى الليل ويستيقظ من الحلم وهو يتفصد عرقا .. ويزحف على رجليه حتى يقترب من باب شقتها ، وهناك يمرغ وجهه بمواضع أقدامها ويظل ملتصقاً بالباب إلى الصباح .. !
     لاحظت سعاد هانم أن زوجها أصبح يتأخر كثيراً فى سهراته .. وهى تخاف فى الليل وحدها .. ولما حدثته عن ذلك ..
      قال لها وهو يضحك :
     ـ كيف تخافين .. وغرفة البواب بالقرب من باب الشقة .. ؟ !
     ـ ولكننى أخاف ..
     ـ إنك ما زلت طفلة .. !
     وتألمت وصمتت ..
     ونامت سعاد هانم فى ليلة من الليالى بعد العشاء مباشرة .. واستيقظت فى هدأة الليل ، ونظرت إلى ساعتها ، فوجدتها الأولى بعد منتصف الليل .. وكان زوجها لم يعد من سهرته بعد ، فأدركت أنه يقامر فى هذه الليلة إلى الصباح ، كعادته فى الليالى التى يتأخر فيها ..
     وظلت ساهرة تستمع إلى هدير الأمواج على الشاطئ .. وكانت الشقة ساكنة لا حس فيها .. لا صوت كلب ، ولا نفس إنسان يشاركانها هذه الحجرات الأربع ..
      وأحست بالخوف يسرى فى كيانها فازداد خفقان قلبها .. وثبتت بصرها على الباب .. وخيل إليها أنها تسمع حركة فى الردهة فاعتدلت فى جلستها ، وأطلت من فوق السرير لترقب زوجها ، فلم يدخل عليها أحد ..
     فنزلت وأخذت تتمشى فى الغرفة .. وأشعلت سيجارة وجلست على كرسى طويل ، وعيناها إلى النافذة المطلة على الطريق ..
      كانت تود أن تفتح هذه النافذة لتستأنس بحركة السيارات التى تمر من حين إلى حين .. ولكن النافذة تعلو قليلا عن رصيف الشارع فكيف تفتحها فى الليل ..
      ظلت جالسة والخوف يشل حركتها ، وسمعها متيقظ ، وعيناها مفتوحتان .. وسمعت نقراً على الباب .. أنسى زوجها المفتاح .. ؟ أم أضاعه فى الطريق ..؟ يحتمل هذا وذاك ..
      مشت إلى الباب وهى ترتجف هلعا .. وفتحت الشراعة الزجاجية ، ونظرت منها فلم تر أحداً فأغلقتها ، وعادت إلى غرفتها ..
     وبعد قليل سمعت النقر على الباب مرة أخرى .. فنهضت واتجهت إلى الباب ، وفتحته وقلبها يكاد ينخلع من بين ضلوعها .. وحدقت فى الظلام فلم تر أحداً ..
      ووجدت البواب نائما فى الممشى ، قريباً من الباب ، فنادته وهى تنتفض :
     ـ عم عثمان ..
     وتحرك البواب ، وفتح عينيه ، ونظر إليها فى ذهول ..
     وقال بصوت خافت :
     ـ نعم .. 
     ـ إننى خائفة وحدى .. تعال نم فى الصالة ..
     ونهض البواب .. ورآها وهى تهتز كالقصبة فى مهب الريح .. ودخل وراءها ، وأغلق الباب ..
***
     عندما حمل عثمان المظلة لسعاد هانم فى ضحى اليوم التالى ، ومشى معها إلى البحر ، نظرت إليه من قمة رأسه إلى أخمص قدمية ، وكأنها تراه لأول مرة..! واشمأزت من هذه القذارة .. أهذا هو الرجل الذى قضت الليل معه .. ! اشمأزت من نفسها .. إنه لا يغير ثوبه القذر .. وما استحم قط والبحر على قيد خطوات منه .. !
أى نتن هذا .. ! ولعنت زوجها ، واحتقرت نفسها .. !
     ولكن عندما ينتصف الليل ، ويشتد السكون ، ويعلو موج البحر ، كانت تجد موجة طاغية عاتية .. آتية من بعيد تحملها إلى هذا الرجل .. ولم تكن تستطيع مقاومتها ولا دفعها .. كانت الموجة العاتية تحملها فى الظلام وهى غائبة عن رشدها .. فإذا عادت لنفسها فى الصباح ، نظرت إلى هذا الرجل ، فوجدته قبيح الوجه ، قذر الثوب ، أعرج .. فيزداد احتقارها لنفسها ويشتد .. وتكاد تجن مما وصلت إليه حالها ..
     فى كل ليلة كانت تحاول أن تقاوم وأن تبقى فى مكانها .. ولكن يداً سحرية كانت تجذبها إليه .. وفى غمرة المد كانت تتمرغ فى الوحل .. وفى الصباح كانت تتحسر ، وتنفض ما علق بثوبها من قذارة ..
***
     ولما انقضت أشهر الصيف ، حزم الزوجان حقائبهما ، واستعدا للسفر وركب معهما البواب السيارة إلى المحطة ..
     ولما تحرك القطار ، دفع الزوج يده فى جيبه ، وأعطى بعض النقود للبواب فاحنى هذا رأسه ، وانصرف يعرج على الرصيف ..
     وقال الزوج لزوجته :
     ـ إنه مسكين .. !
     فصمتت الزوجة ، ونظرت إلى زوجها ، وعلى وجهه أمارات الطيبة ، وعقد لسانها ، وشرد ذهنها طول الطريق ، وتصورت نفسها أكثر من مرة تحت العجلات ، والقطار يمزق جسمها تمزيقا ..
================================= 
نشرت القصة فى مجموعة " العربة الأخيرة " سنة 1948 وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من الإسكندية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
=================================


نساء فى الطريق

أنا رجل مريض .. مريض مرضًا لا شفاء منه وميت فى الحقيقة ، وإن كان نفسى لا يزال يتردد ، وقلبى ما زال ينبض ولقد يئست من كل شئ ، وضقت ذرعًا بكل أمر ، وبلغت أقصى درجات القنوط .. وبدا لى أن أضرب فى الأرض ..
اتجه إلى أى مكان .. أهجر القاهرة بكل ما فيها من خير وشر ، أهجر هذا الجو الراكد الذى يقطع الانفاس إلى أن يحين حينى ..
ولما ركبت قطار الظهر إلى الإسكندرية .. كانت محطة القاهرة تختنق من دخان القطارات ، وشمس الظهيرة المتسلطة على المكان ، كان كل شئ يحترق ، كان الحر يلفح الوجوه ، ويسيل العرق على الجباه وكان الزحام بالغا أشده ، فى القطار وتحت ذلك السقف الزجاجى المتوهج ، كان الناس يتدافعون بالمناكب ، كأنه آخر يوم فى السفر ، وآخر قطار ذاهب إلى الإسكندرية ..
جلست فى ركن من العربة أتطلع إلى الوجوه .. وجوه الجالسين معى فى داخل العربة ، والواقفين فى الممشى لم أر فى هذه الوجوه وجها واحدا تستريح العين إليه ، كانوا جميعا من السماسرة ، ورجال الأعمال ، وموظفى المصلحة ، وهؤلاء أشبه بعمال السكة الحديد فى المحطات الصغيرة فى روسيا .. الشخصيات التافهة فى روايات تشيكوف ، تعاسة مرة .. وبلادة وخور .. واستسلام للمصير ، ورضوخ لحكم الأقدار .. حديث تافه عن عمال البلوك ونظار المحطات .. وكادر المصلحة ، ولا شيء غير هذه التفاهة ، كان هذا كله يزيدنى غما وهما ..
وتحرك القطار .. خرج من نطاق المحطة الحديدى ، واستقبل مزارع شبرا ، وهنا تغير الجو ، وهب النسيم العليل مخففا من شدة الحرارة فى داخل العربة ، وشعرت بالارتياح .. وملت إلى النافذة ومر الهواء الرخى على وجهى .. وأغلقت عينى ، وحاولت أن أصرف ذهنى عن التفكير ، وأن أملأ رئتى بالهواء النقى ، وأتنفس تنفسا عميقا ، إلى أن يأخذنى النعاس ..
وفعل الهواء فعل السحر فى جسمى ونفسى .. ولم أعد أحفل بمن حولى من الركاب حتى بلغنا الإسكندرية ..
حملت حقيبتى ، واجتزت باب المحطة الخارجى ، واعترضنى نطاق من الحمالين ، وسماسرة الفنادق والغرف المفروشة ، وما أكثرهم فى هذا الفصل من السنة ..
فى المرات السابقة كنت أجتاز هذا النطاق ، دون أن أتبادل مع أحد من هؤلاء كلمة واحدة ، لأننى كنت أعرف وجهتى ، ولكن فى هذه المرة لم تكن لى وجهة معينة ، وكنت أشعر بشعور الغريب النازل فى مدينة كبيرة لأول مرة فى حياته ، كنت حائرا ولا أدرى فى أى طريق أمضى .. ولهذا استعنت بواحد من هؤلاء الصبية وأفهمته رغبتى ، غرفة صغيرة على البحر فى أى مكان فى المدينة ..
كنت أود أن أعيش الأيام الباقية لى من حياتى على أى وجه ، وبكل ما أملك من قوة ..
نزلت فى فندق صغير على البحر ، ونمت فيه أول ليلة مستريحًا كأحسن ما ينام مسافر ، وفى الصباح تجولت قليلاً فى المدينة ، كانت عامرة بالناس تدب الحركة فى شرايينها ، لقد تغيرت عما كانت منذ سنين ، وخرجت فيها المرأة إلى الطريق لتعمل ، رأيت وجوها أكثرها من الفرنجة ، ولكن من بينها وجوها مصرية تطفح بالبشر والسعادة ، وجوها ضاحكة لا تراها إلا فى هذا الثغر الجميل ، فى هذه المدينة أصفى بشرة وأحلى عينين ..
***
       عدت إلى الفندق لأتغدى ، وبعد الغداء استرحت قليلاً ، ثم خرجت فى ساعة الأصيل ، لأتمشى على ساحل البحر فى منطقة الرمل ، بين محطة الرمل والشاطبى .. ولقد سرت فى هذا الطريق من قبل ، وأنا ممتلئ شبابا وقوة ، وما كنت أفكر فى شيء ولا أحفل بأمر ، وما خطر على بالى الموت ، ولا فكرت فى المرض ، ولا شعرت بألم فى أى ساعة من ساعات نهارى وليلى ، أما الآن بعد أن دخلت جوفى العقاقير ، وتشرب جسمى من هذه السموم ، فقد تغير كل شيء فى نظرى ..
       لقد كنت سكيرًا و مخمورًا أبدًا ، وفعلت الخمر أفاعيلها فى جسمى ، ولكن هناك من لا عداد لهم يشربون الخمر مثلى ، ولم يسقط واحد منهم سقطتى فى أول شوط ..! وبإرادة مارد جبار طلقت الخمر ، وبإرادة أقوى منها سأطلق العقاقير ، إنها أشد فتكا فى الجسم من الخمر وأعظم أثرا ، وما من شيء يرجى منها على الإطلاق ..! سأدع كل شيء للطبيعة وهى التى تمسح كل علة ..
       لقد تغير كل شيء فى نظرى ، ومشيت فى الطريق متثاقلا أشعر بتعاسة مرة وبأحزان قاتلة ، وبعد كل خطوتين أو ثلاث كانت أقف لأسمع ضربات قلبى ..!
       أخذت أروح وأجئ فى الطريق ، وأنا أودع الشمس الغاربة وأرى شعاعها الأصفر يتراقص مع الموج .. ورأيت مركبًا صغيرًا يمضى مع الشمس إلى حيث لا تراه العين ، ولا تأخذه الأبصار ، وتخيلته يسير بى إلى حيث لا يستقر على شط ، واستغرقت بكليتى فى هذا الخاطر .. ولما رجعت لنفسى كان النور يغمر المدينة ..
       بعدت عن الحاجز الحديدى ، وأخذت أتمشى فى الطريق إلى محطة الرمل ، وكنت أنقل الخطى متثاقلا ، وأتأمل وأفكر .. وكان الظلام قد خيم على البحر فاختلط لونه بلون السماء ، وأصبح كل شيء قاتمًا لا تنفذ فيه العين ، وكان يبدد هذه الغياهب من حين إلى حين .. " فنار " الإسكندرية وهو يرمى بنوره إلى البحر ..
       كان السكون مخيما ، والطريق خاليًا تقريبًا إلا من نفر قليل كان يمشى الهوينى مثلى ، ولكن ما أحسبه كان يفكر تفكيرى ، ولا يرزح تحت ثقل المرض كما كنت .. وسمعت من يحدثنى فتلفت .. فألفيت رجلا قميئا .. فى جلباب أبيض .. وجاكتة سوداء .. وكان أسمر وفى عينيه حول .. وكان زرى الهيئة حتى تصورته شحاذاً .. فدفعت يدى فى جيبى ، ورأى هذه الحركة فقال بسرعة :
       - لا أريد شيئًا يا سيدى .. أنا خادمك ..
       واقترب منى ، وهمس فى أذنى كلاما ..
       فقلت له مبتسما :
       - أين ..؟
       - فى محطة الرمل .. فى الشاطى .. فى الإبراهيمية .. فى اسبورتنج فى محرم بك .. كما تحب .. كما تحب ..!
       وانطلق فى حديثه .. وكنت أريد أن أتلهى فاستمعت له طويلا .. كان يعرف أكثر من لغة ، ويتميز بفراسة قوية ، ولعله لمحنى وأنا أتسكع وحدى فى الطريق ، وعرفَ أننى مهموم غريب فتبعنى ..
       وظللت أحادثه حتى بلغنا محطة الرمل ، فأعطيته شيئًا وصرفته ، ودخلت فى أحد المطاعم لأتعشى ..
***
       رجعت مرة أخرى إلى طريق الكورنيش .. ولكنى اتجهت فى هذه المرة إلى بحرى .. وجدت نفسى أكثر تعاسة من ذى قبل ، واشتدت علىّ وطأة الوحدة ، وأخذت ألوم نفسى على عدم ذهابى مع ذلك الرجل .. لماذا لم أذهب معه ..؟ وادفن أحزانى فى صدر أية امرأة ..؟ لماذا لم أذهب معه ..؟ النساء .. زينة الحياة .. كل شيء ينسى معهن .. كان شعورى شعور الرجل الذى صدر عليه حكم الإعدام ، وبقيت أمامه أيام قليلة للتنفيذ وفى هذه الأيام تركت له كل حرية فكيف لا يمتع نفسه بالحياة ..؟ لماذا صرفت الرجل وأمامى ساعات معدودات ، يجب أن أتمتع فيها إلى أقصى حد ..؟
       لماذا تركت الرجل ..؟ وفى غمرة هذه الخواطر المؤسفة .. لمحت شبحًا من بعيد ، ظل امرأة ينسحب عن نور المصباح القائم فى الطريق ، مددت بصرى وأسرعت .. كانت تمشى الهوينى محاذية سور الكورنيش ، ولكنها لم تكن تنظر إلى البحر ، كانت تنظر إلى الأمام ولا تلتفت قط ..! كانت فى ملاءة سوداء ، واقتربت منها ومشيت وراءها ، وعيناى لا تتحولان عنها .. لمحت جزءًا من الساق ، وكان فى بياض المرمر ، وأشد منه لمعانا وفتنة ، وارتفع بصرى إلى الجسم كله من خلف ، وأخذنى مثل الدوار ، من الذى صنع هذا الجسم ..! وكيف يكون إذا تجرد .. وبرزت هذه المفاتن كلها ..؟ واقتربت منها جدًا حتى كاد كتفى أن يلتصق بكتفها ..! ونظرت إلى وجهها ، وكانت تحجبه بخمار خفيف أسود .. كما يحجب الغمام وجه القمر .. نظرت إلى ذلك الوجه الأبيض ذى الخمار .. وتذكرت لوحات محمود سعيد لحسان بحرى .. الجسم نفسه .. الفتنة عينها .. ولكنها هنا تتحرك ..
       هل نظرت إلىّ عندما حاذيتها ..؟ أبدا .. مضت فى طريقها لا تعبأ بشيء ، ومشيت وراءها أكثر من ثلث ساعة ، ثم تركت ساحل البحر واتجهت إلى قلب المدينة .
 ولما ركبت الترام الدائرى وراءها .. وسار الترام فى شارع التتويج .. ما أجمل أسماء الشوارع فى الإسكندرية .. شارع التتويج .. شارع أبى حاتم .. شارع أبى السعادات ..! ونزلت من الترام ودخلت منزلا صغيرا من طابقين يطل على البحر ..
       وفى صباح اليوم التالى كنت أدور حول منزلها ، وقفت من بعيد أرقب النوافذ ، وأنا أروح وأجئ فى الطريق ، وأخيرًا رأيتها كانت مطلة برأسها من النافذة تحادث جارة لها ووجدت بصرى يتعلق بها ، وروحى تكاد تقفز إليها .. هل بصرت بى ، وأنا واقف هكذا ، أنظر إليها من بعيد دون حراك أبلة كالتمثال ، وجامدًا كالصنم ..؟ أجل لقد نظرت إلىّ وابتسمت ابتسامة خاطفة .. ثم علا وجهها الوجوم ، وارتدت عن النافذة ، وأغلقت مصراعا منها ، وتركت المصراع الأخر على حاله ، ودفعتنى هذه إلى الحركة .. فتراجعت إلى الوراء .. إلى نهاية الشارع .. ووقفت ساهماً شارد اللب موزع الخاطر هل هذه الحركة من ألاعيب النساء ، هل يأتى هذا الصدود من امرأة كانت تسير وحدها فى الليل ، فى شارع البحر ..؟
       رجعت إلى بيتها مرة أخرى ، كانت واقفة فى النافذة تنظر إلى جهة البحر .. واقتربت منها ، ورفعت وجهى إليها فابتسمت ، وألقيت رأسها إلى الوراء كما يفعل العصفور الصغير .. ثم ضحكت وتوارت ..
***
       فى المساء كنت أسير وحدى فى شارع البحر وفى المكان الذى رأيتها فيه أمس ، وكنت مستريحا ناعم البال ، لم أكن أفكر تفكير الأمس ولا كانت تدور فى رأسى الخواطر السوداء عن المرض والموت ..
       كنت أشعر بانتعاش وحيوية ، وعاد الأمل ينبعث فى من جديد ، وتمنيت أن أعيش ، لقد وجدت لى هدفًا ، كانت روحى ضالة فوجدت فى هذه المرأة إلفها ..
       سرت وحيدًا ، وتصورتها أمامى بملاءتها السوداء ، وخمارها الأسود الذى يغطى نصف أنفها ، ونصف وجهها ، ويبرز عينيها الدعجاوين ، وهالة النور التى على جبينها .. يالله .. بين يوم وليلة تغير فى كل شيء .. وأحسست فى هذه الليلة بقوة دافقة تسرى فى عروقى ، وعلى الرغم من أنها لم تأت ، فإننى لم أقلق ولم أبتئس .
    لقد كنت موقنا بأننى سألتقى بها مرة أخرى يومًا ما .. إن القدر لم يضعها فى طريقى عبثا .. إنها حدث الأحداث فى تاريخ حياتى ، إنها نقطة التحول ، لقد التقيت بها عرضًا فى ساعة مظلمة من حياتى لتفعل أفاعيلها فى نفسى .. تغيرنى وتبدلنى تبديلاً ..
       ولأول مرة أرى البحر يضحك ، وجوه الناس باسمة .. والإسكندرية كلها تتلألأ بالأنوار البراقة .. لقد أكلت فى هذه الليلة كالثور ، ونمت نومًا عميقًا ..
       وفى الصباح كنت هناك فى منطقة بحرى .. ورأيتها ، ولوحت لها بيدى فابتسمت .. وأشرت عليها بالنزول فهزت رأسها وهى تضحك .. ووجدت بائع لبن صغير بالقرب من منزلها ، فجلست عنده أكثر من ساعتين ، وأنا أرقب نافذتها من بعيد ..
***
       والتقيت بها أصيل يوم فى " سوق الخيط " وكانت معها صاحبة لها ، ولما وقع بصرها علىّ مالت على أذن صاحبتها ، فنظرت إلىّ هذه وابتسمت لقد حدثتها عنى .. شعرت بزهو لا حد له ، واقتربت منهما .. ووقفت على الحوانيت التى وقفتا عليها .. وقلبت فى البضاعة التى اشترتها صاحبتى .. ولما خرجنا من السوق أشارت إلىّ بأن لا أتبعها ، فحييتها من بعيد وانصرفت ..
       وبعد الغروب كنت فى شارع البحر ، ولمحتها قادمة من بعيد ، كانت تتجه نحوى ، وأمسكت بيدها وضغطت عليها لقد جاءت أخيرا ..!
       وقالت وهى باسمة :
       - من مصر ..؟
       - آه ..
       - وحدك ..؟
       - وحدى ..!
       - مفيش حد فى الإسكندرية وحده غيرك ..
       - قسمتى كده ..
       وضحكت ..
       ثم سألتنى ونحن نتمشى :
       - ما الذى كنت تقوله لى فى سوق الخيط ..؟
       - كنت أقول إنك أجمل من رأيت من النساء ..
       - وهل رأيت كثيرا من النساء ..؟
       - من كل جنس ولون ..!
       - لقد خاب نظرى فيك ..
       - لماذا ..؟
       - أتصورك ملاكًا .. لوداعتك وهدوء نفسك .. ولهذا أحببتك ولهذا جئت .. أما الآن بعد أن عرفت أنك شيطان .. فدعنى أذهب ..!
       وابتسمت فى إغراء وفتنة .. أحبتنى .. إننى لم أسمع هذه الكلمة من امرأة قط .. ونظرت إلى عينيها وسبحت فى أعماقها ولم أقل شيئا ، وأخذنا نتمشى .. نروح ونجئ فى الطريق متمهلين حالمين ..
       وأخيرا قالت :
       - لا أستطيع أن أمكث معك الليلة أكثر من ذلك .. وسأنتظرك غدا فى الصباح الباكر فى منزلى .. سأقف فى النافذة من مطلع الشمس ..! 
       - ألا تجلسين معى قليلاً على هذا المقعد ..!
       - آسفة .. لا أستطيع .. لقد جئت الليلة لأراك فقط ..
       وشددت على يدها ، وشيعتها ببصرى حتى توارت ..
***
       وفى الصباح اتخذت الطريق إليها .. وصعدت درجات منزلها الصغير الحقير .. وكأننى أصعد إلى السماوات .. لم أفكر فى شيء ، وكنت كالمأخوذ .. وكانت هناك قوة جبارة تدفعنى إلى ذلك دفعًا .. وكان السلم قذراً ، وتنبعث منه رائحة خانقة ، ومع ذلك صعدته فى بطء وكنت أمعن البصر فيما حولى وأتمهل .. ورأيت أول ما رأيت فتاة صغيرة فى الرابعة عشرة من عمرها جالسة القرفصاء تحت دكة خشبية ، ولما بصرت بى ابتسمت فى خفر شديد .. وكانت عيناها تحدقان فىّ بقوة ، وكان وجهها صبوحا وملامحها مشرقة ، وابتسمت لها وحييتها .. وسمعت صوتًا ناعمًا يقول :
       - تفضل ..
       كان صوت نعمات ، وكانت واقفة فى الصالة عارية القدمين محلولة الشعر فى ثوب أبيض نضير .. وقفت ضاحكة ونظرت إليها فى دهشة ، فأشارت إلى باب غرفتها ، وقالت وهى تبتسم :
       - تفضل .. لماذا تنظر إلىّ هكذا ..؟
       - لقد تغيرت .. وكدت أنكرك ..! إنك فى الملاءة فى الشارع .. غيرك فى هذا الثوب فى المنزل ..
       وضحكت ، وأجلستنى بجوارها على كنبه فى الغرفة ..
       لقد أحببتها فى هذا الثوب ، وهى عارية القدمين محلولة الشعر .. كانت أشبه بفتاة صغيرة تستقبل الحياة بفتنة طبيعية وأمسكت بيدها .. فقالت هامسة :
- كيف جئت إلى هنا ..؟
       - لا أدرى ..
       وكان هذا حقًا .. وأخذنا نتحدث فى سرور وبهجة ..
       ودخلت علينا سيدة أكبر منها قليلاً تحمل القهوة .. وكانت قريبة الشبه بنعمات ولكنها سمراء دعجاء العينين ..
       وقالت نعمات :
       - أختى ..
       وسلمت بحرارة وقلت :
       ت إنها شبيهة بك .. ولكنها تستحم .. وأنت لا تستحمين ..
       - أنا .. مستحمية بالليل ..
       وضحكت .. فنظرت إلى أختها وقالت :
       - فوزية .. مش مصدرق ..!
       وصدقت وأمنت ، فإن بشرتها لم تقع عليها الشمس ..!
***
وخرجت من البيت وانتظرتها فى الطريق على مدى بعيد من المنزل .. وجاءت بعد نصف ساعة ، ومعها فتاة فى الخامسة من عمرها .. وكانت فى لباس أبيض ومرسلة شعرها وتاركة ساقيها بلا جوارب .. من ملاءة فى الليل إلى فتاة اسبور فى النهار ..
كانت الأنظار متجهة إليها على جانبى الطريق ، وكنت أسير أمامها متباطئا .. ولما مرت بى قالت لى فى صوت خافت ولكنه آمر ..!
- لا تسر أمامى ولا خلفى ..
ووقفت ساهما أقلب بصرى فى الطريق .. لا أمامها ولا خلفها ..
كيف أمضى إذن ..؟ .. ومضت عنى ، وأنا مسمر فى مكانى كالمشدوه ولأول مرة فى حياتى أتلقى الأمر من امرأة .. وكنت أود أن أتمرد ، وأتركها لأخلص من هذا العذاب ..
ظللت فى مكانى واجما .. وكانت قد مضت فى الطريق الطويل فى دائرة الظل ، وثوبها يهتز على جسمها ، ورأيت هذا الجسم يولى أمامى .. هذه الفتنة المنطلقة ، هذا الجمال الذى لا شبيه له ، فكيف أتركه ، وتحملت العذاب ورضيت بالذلة ، وسرت وراءها فى خطوط حلزونية كالكلب الذليل .. بعد ساعة سيكون هذا الجسم لى ، ساعة واحدة ليس إلا ، وسأحظى بأجمل امرأة فى الوجود .. وسأنعم بأقصى ما يتمتع به إنسان ..
 وخرجنا من الحى ، وعادت الفتاة الصغيرة من حيث أتت ، وتنفست الصعداء ، لقد اجتزنا منطقة الخطر ..!
وركبنا عربة وانطلق بنا السائق إلى الفندق ، وأخذ الجواد ينهب الأرض .. وكانت جالسة فى سكون وصمت .. ولكنها كانت تبتسم فى وداعة ، وفى عينيها طهر كطهر العذارى ..
       وفتحت لها باب غرفتى .. وجلست إلى المنضدة تقلب فى أوراقى .. وكانت عطشى فحملت لها كوبا من الماء .. ووقفت أنظر إليها وهى ترشف الماء رشفا ، وكانت شفتاها القرمزيتان منطبقتين على حافة الكوب .. ولما تناولت الكوب من يدها انحنيت عليها ، وأطبقت شفتى على هاتين الشفتين وجذبتنى إليها ، وضغطت بذراعيها على عنقى .. وذقت لأول مرة الشهد الخالص ، والرحيق المختوم ..!
***
       كانت تجئ كل يوم ، وتجلس معى طول النهار ومعظم الليل .. ومع هذا كله لم أشعر قط بأننى ارتويت .. وكانت الساعات القليلة التى تغيبها عنى من أشد الأوقات على نفسى .. كانت تمر بطيئة ثقيلة .. فإذا سمعت نقرها الخفيف على الباب استقبلتها باسطا ذراعى ، دافنا وجهها فى صدرى ، ومع هذا كله ومع كل ما كان بيننا من اتصال دائم ، وامتزاج متصل .. فإننى كنت أشعر فى كثير من الليالى بأن شيئا غامضا يحيط بى .. وأنى أجهل الكثير من أجزاء جسمها .. جسمها الذى ضممته إلى أكثر من مائة مرة .. كان فيه شيء لا أعرفه ..
       وكثيرًا ما أغمضت عينى لأتصورها بعين الخيال ، وهى نائمة شبه حالمة فى الفراش ، فكانت هذه الصورة لا تجئ كاملة أبدًا كان دائما ينقصها شيء ، كان ستار أسود يسدل على الساقين ، ونصف الصدر ، والجانب الأيسر من وجهها .. وكانت إذا تململت فى الفراش ، ونظرت إلىّ بعينين ذابلتين وقالت :
       - ما أشبهك بطفل ..
       كنت أضحك ، وأود أن أمزق هذا الستار الذى يحجب عنى جسمها وأراه فى دائرة الضوء .. وأطعنها بعد ذلك بخنجر فقد كان فى نظرتها ما يروع .. وإن كانت نظرة آسرة حالمة ..
       ولما وضعت يدى على خدها ، وقلت لها فى صوت يرتعش :
       - أنا أحبك ..
       قالت على الفور :
       - وأنا أحبك ..!
       وأدمت النظر فى سكون إلى سواد عينيها وابتسمت .. فسألت وعيناها فى أعماق عينى :
       - ألا تصدق ..؟
       فقبلتها ولم أقل شيئا .. وكانت لا تزال تديم النظر إلىّ ولاتطرف .. كان وجهها أشبه بوجه طفل متسائل ، وعيناها لا تتحولان عن شفتى .. ومع هذا لم أتحدث إليها ، ولم أقل لها شيئا ، فمدت يدها وجذبتنى نحوها وكانت فى هالة من الفتنة فوضعت شفتى على شفتيها .. وضممت صدرها إلى صدرى .. وأطلت النظر فى عينيها ، وكانتا تبرقان وسوادهما على أشده .. كانت تبتسم فى اشتهاء ، وكان كل شيء يزيدنى ولها بها وتفانيا فيها .. وقد نسيت معها المرض والهم وآلم الوحدة ..
       نسيت كل هذه الأشياء ، واستغرقت فيها مشاعرى وحواسى ..
***
       كنت أعرف سيدة أجنبية فى محطة الرمل .. فانتقلت ومعى نعمات إليها .. وكانت نعمات سعيدة مرحة فى هذا المكان الجديد .. ثم بدأت تضجر ..!
       وكنت لا أسمح لها بالخروج إلا معى .. فى الصباح كنت أخرج وحدى ، وأصحبها معى فى الأصيل .. نتمشى قليلا فى شارع البحر .. ثم نعود إلى البيت .
 وكان يعترى وجهها ونفسها تغير سحرى كلما خرجت إلى الشارع .. فإذا كنا فى نهاية الطريق ، وشعرت بتعب ، وأشرت عليها بالعودة .. كانت تقول فى غضب :
       - لماذا هذه العجلة .. إننى أحب المشى ..
       إنها تحب السير فى الطريق ، ولا سعادة لها فى غير هذا ..
       كانت المرأة الفرنجية التى نقيم عندها فى فقر شديد .. ولم أكن أعرف من أين تأكل وتعيش .. كانت تعاستها مرة وبؤسها أسود .. وكان منظرها وهى تفتح لى الباب ، فى الليالى التى أتأخر فيها يثير الرعب فى نفسى ..
       كانت تفتح الباب فى بطء وحذر ، دون أن تشعل النور .. وتنظر إلىّ بعين مستفسرة ، وشعرها مشوش ، ووجهها عليه كل أمارات الفزع .. ويدها تنتفض على مصراع الباب .. ثم تتذكر بعد لأى .. وتعرفنى وتطمئن ، فتفسح لى الطريق .. فأدخل فى سكون ، دون أن أبادلها كلمة واحدة ..!
       من وقت أن نزلت عندها ، لم أدفع لها شيئا يعينها على حياتها الشقية .. وكيف أدفع لها وأنا فى حاجة إلى كل قرش لأطيل مدة إقامتى مع نعمات غارقا فى الملذات ، ضاربا صفحا عن كل عاطفة إنسانية ..! لم تطلب منى هذه المرأة الكريمة شيئا .. ولم تشك لى من تصرفات نعمات .. التى كانت تظل طول النهار فى البيت ، ولا تقوم بعمل .. كانت دائما نائمة على جنبها قرب النافذة سابحة فى الأفق .. فإذا حدثتها عن مساعدة المرأة فى شئون البيت .. قالت فى حدة أفزعتنى :
       - أنا لست خادمة لك أو لها ..
       وكنت أتراجع وأسكت ..
ولما صورت لها بؤس المرأة وفقرها وشيخوختها ، قالت وهى تهز كتفيها :
       - ولماذا تعيش إلى هذه السن ..؟ إن منظرها مرعب .. كلما نظرت إلى وجهها ، وتصورت أننى سأكون مثلها أكاد أجن من الفزع ..!
       - ألا تحبين الحياة ..؟
       - الحياة .. أجل أحبها .. ولكن ماذا تكون الحياة لمثلى من غير جمال وشباب .. إنك لا تعرف هذا الجحيم ولا تدركه لأنك رجل ، عندما يبدأ أول خط من التجاعيد فى وجهى سأفعل هذا ..
       وأشارت إلى عنقها ..!
       فقلت لها ضاحكا :
       - دعينى أقوم لك بهذه المهمة من الآن ..!
       - أنت ..! وتقدر ..؟
       ونهضت وأمسكت بعنقها ، وكانت تضحك .. وضغطت .. فألقت برأسها إلى الوراء ، وأسبلت عينيها .. ورأيت ظل أهدابها على وجهها .. ولم أكن قد رأيته من قبل قط .. ورأيت الدم الذى حبسته بيدى يطفح من وجنتيها ويكتنز فى شفتيها وكانت ترتعشان وعليهما ظل ابتسامة فاتنة .. ولف شعرها الأسود وجهها المتألق ، وأسدلت منه خصلات على جبينها ..
       وطوقتها بذراعى ، وكتمت أنفاسها اللاهثة ..
***
       ومرت الأيام ، وابتدأت نعمات تسأم هذه الحياة .. حياة الحبس فى المنزل وعدت ذات يوم للبيت فلم أجدها ، فسألت عنها صاحبة البيت فقالت لى : إنها خرجت ولم تقل لها شيئا .. فجلست صامتا ، والغضب يتطاير شرره من عينى .. وجاءت بعد ساعة فسألتها ، وأنا أكتم انفعالى :
       - أين كنت ..؟
       - عند أختى ..
       قالت ذلك بكل سذاجة وبساطة ، وبصوت هادئ زادنى غيظا وحنقا ..
       فقلت لها وأنا أحاول أن يكون صوتى أكثر هدوءا :
       - ولماذا لم تستأذنى ..؟
       - لم أعتد ذلك ..
       ألقت هذه الكلمات بصوت أكثر هدوءا ، فنهضت نحوها وأنا أفور غضبا ، فتراجعت إلى الوراء وصاحت :
       - إذا كنت تود أن تضربنى إضرب .. إضرب لأنك تحب أن تضرب .. لا لأنى فعلت شيئا استحق عليه الضرب .. إذهب إلى فوزية واسألها أين كنت ..
       - لا داعى للسؤال فأنا أعرف أنك كاذبة ..
       - كاذبة ..! إنك لا تصدق أحدا ، والشك ينغص عليك حياتك .. إنك تتصور أننى قد استسلمت لك فسأ ..... 
       ووضعت يدى على فمها ، وضغطت بقوة .. لا أود سماع هذه الكلمة البشعة .. إن مجرد تصورى أنها تفكر فى أن تعطى هذا الجسم لغيرى كان يطير لبى .. ودفعتها إلى الوراء بعنف وشراسة .. فارتمت على الأرض باكية ..
       وأخذت أروح وأجئ فى الغرفة كالنمر المحبوس فى قفصه ..
***
       أخذت نعمات تغيب فى المساء .. وتتأخر أحيانا إلى نصف الليل .. وكانت النقود التى معى قد نفدت .. وصاحبة البيت على حالها من الفقر والتعاسة .. وكان عراكى مع نعمات يوميا .. ولم أكن أدرى أين ذهبت وكنت واثقا من أنها لا تذهب عند أختها كما كانت تقول ..
       وكنت إذا عدت ولم أجدها فى المنزل ، أنزل وأبحث عنها فى الطريق كالمجنون .. أتطلع إلى الوجوه ، وجوه النساء التى تسير فى شارع البحر بعد الغروب .. فى هذه المنطقة وجدتها وفى هذه المنطقة تعود .. لتقع على صيد جديد ..
       ولقد انقلبت الكلمات الحلوة التى كنت أسمعها منها إلى فحيح الثعابين .. وغدا جسمها فى نظرى جيفة عفنة .. ولقد كنت أود أن أمزق هذا الجسم بالسياط بعد أن غمرته بالقبل .. ولكن يدى كانت مشدودة إلى عنقى .. لم يكن معى ما أشترى به السوط ..
       لقد ألهبت الخواطر كيانى ، وسرت فى الطريق وعيناى محمرتان .. ولمحت من بعيد هذا القزم .. هذا القزم الذى قابلنى أول ليلة فى شارع البحر وعرض علىّ نساء من كل لون وجنس ، لابد أنه يعرفها ويعرضها على الرجال ، وفى ثورة جنون ناديته بصوت حاد .. فجاء مسرعا .. أخذت أحادثه .. وأعاد علىّ المناطق التى يعرفها ، وذكر لى أوصاف النساء فيها .. إنها ليست منهن .. ولكننى لم أقتنع ، وسألته فى لهفة وقلبى يتوثب :
       - أتعرف نساء من بحرى ..؟
       - أيوه ..
       وحدقت فى وجهه بقوة وسألته ، وقد شعرت برأسى يدور وقلبى يتوقف عن الخفقان :
       - أين .. فى أى شارع .. ؟ تكلم ..
       فذكر الشارع .. إنه ليس شارعها وشعرت بالارتياح .. ونقدته شيئا وصرفته ..
       وانطلقت أصفر فى الطريق ..
***
       وتغيرت نعمات مرة أخرى ، وعادت إلى حالها الأول ، اشتد تعلقها بى .. وكفت عن الخروج .. عادت إلى سكونها وتطلعها من النافذة .. ومضت أيام ورجعنا إلى سعادتنا الأولى .. ونسينا الماضى ..
       وذات ليلة لم أجدها .. وانتظرت ساهرا إلى الصباح فلم تأت .. وذهبت إلى منزلها فلم أجدها .. وبحثت عنها فى كل مكان فلم أعثر لها على أثر ..
       كنت فى حالة يأس قاتل .. كنت أصر بأسنانى ، وأضرب يدى فى الهواء .. كنت شريدا طريدا ، واجتمعت علىّ محن الزمان كلها فى ساعة مظلمة من حياتى ..
       وذات ليلة بصرت بها من بعيد تمشى فى شارع البحر .. كانت تسير الهوينى كما شاهدتها أول مرة ، ولكنها لم تكن وحدها ، كان معها رجل آخر ..
_______________________________
نشرت القصة فى كتاب " العربة الأخيرة " سنة 1948
ـــــــــــــــــــــــــ


هاجــر
   
       هجرتني " هاجر " بعـــد عشرة طويلة دامـــت ثمانيـة أعوام ، خرجت في الصباح الباكر ولم تعد ، ولقد بحثت عنها فى كل مكان اعتادت الذهاب إليه فلم أعثر لها على أثر !
     لقد تربت " هاجر " في بيتى ، جئت بها من الريف وهى طفلة فى السابعة من عمرهـــا ، لتخــــدم عـــندى ، ولكنى لم أعاملــها قـط كخــادم ، لأنهـا كانت يتيــمة وفقـــيرة ، وكانت جميلة ضاحكة كالشمس .
     وكـانت " هاجر " في طفولتــها الأولى لا تكـذب قــط .. كانت مثال الصدق والإخلاص .. كانت تروى لى الأخبار فى صراحـة وبراءة ، وكنت إذا سألتها عن شىء ، وظهر أنها لا تعرفه كانت تجيب مسرعة :
    ـ لا أعرف ..   .
لم تكن تكذب قط .
وكانت أبدا ضاحكة طروبا .. تملأ البيت سرورا وبهجة .
                                  ***
     ثم مضت الأعوام وكبرت " هاجر " .. تغيّر جسـمها ، وبرز نهـداها ، واكتنـز صدرهــا ، ولمعت عينــاها ببريق الأنوثة وسحرها ، ورق صوتها ، وزاد عذوبة وفتـنة .
     وطال مع هذا صمتها وتغيرت طباعها ، فكنت كثيرا ما أراها مطرقة واجمة لسبب ولغير ما سبب .
     وابتدأت تكذب ، وتدور بالكلام ! وتنظر كثيرا فى المرآة ، وتطيل النظر ! .
     ودخــلت مرة البيت ، فوجدتها واقفــة تتشـاجر مع بائع الخبز ، وكان غلاما وسيما فى السابعة عشرة من عمره .. ثم طردته وامتنعت عن أخذ الخبز منه شهرين كاملين .. ثم عادت وأخذته منه !
     ولما سألتها :
     ـ لماذا رجعت إلى بائع الخبز ؟  
     قالت بهدوء :
     ـ حسن .. ؟  .
     ـ  آه .. حسن .. !  .
     ـ إنه مسكين ..!  .
     وعادت إلى سهومها وصمتها . ولقد عجبت لهذا التغير المفاجئ الذى طرأ على " هاجر " .
                                      ***
     وسمعتها مرة ، وأنا صاعد على سلم البيت تبكي وتعول .. ثم رأيتـها تضرب الخـــادم الصغير الذي معـها في البيت ، لأنه أخذ الخبز من " حسن " . ولما سألتها عن ذلك ، قالت وهي تنشنج :
     ـ إنه ابن كلب .. ولقد طردته .. ولا يمكن أن نأخذ منه الخبز مرة أخرى .. إنه غشاش لص ..!  .
     فصمت ، ولم أقل شيئا .
                               ***
     وذات يوم خرجت " هاجر " ولم تعـد .. لقـد هربت مع " حسن " بائع الخبز ..!
=================================
نشرت القصة بمجموعة العربة الأخيرة  لمحمود البدوى عام 1948
=================================





الجواد الجريح


     كان الأسطى عبد الصبور يسير بعربته الأنيقة فى شارع الكورنيش ، وفى منطقة الشاطبى يفكر فى راكب جديد ساعة الغروب .. عندما أوقفه الطبيب البيطرى وأخذ يفحص جواده .. فك وثاقه من العربة وأقبل به وأدبر .. ثم سلمه لتابعه فأخذه هذا ومضى ..
     ووقف " العربجى " مذهولا وتجمع الناس من حواليه , وأخذوا يهزأون به ، ويضحكون منه ، وزاده هذا عذابا وألما فأخذ يصيح : 
     " أخذوا منى الحصان وأنا مسكين مثلكم ..! لماذا تضحكون وتسخرون دائما من التعساء أيها المساكين ..؟ "
     وبكى وأخذ يسترحم الناس ، ولكن ما من راحم .. فقد سار الجواد فى طريقه إلى الشفخانة ..
     واشتد صياحه ، والناس يتضاحكون من حوله ، وقد وجد الفقراء فى مأساته ملهاة لهم ..
     واستعار عبد الصبور جوادا من أحد زملائه ، وركب عربته إلى البيت .. وأخذ يفكر طول الطريق فى المصيبة الجديدة التى ستنزل على زوجته وبناته عندما يعرفن ما حدث للجواد ، وأخذ يسائل نفسه ويعجب ..
     لقد مرض هو من قبل ومرضت زوجته فلم يجد من ينقله إلى المستشفى ، أو من يقوم بتمريضه .. ولقد مرض أحد أولاده منذ سنوات ومات ، ولم يجد وهو الفقير المعدم مستشفى يأويه .. فكيف نزلت الرحمة على الحيوان وأغفلت الإنسان ..!
     وظل يفكر فى هذا ومثله حتى بلغ البيت واستقبلته زوجته وبناته الثلاث على الباب كعادتهن ، ولما رأين الجواد الغريب نظرن إلى عبد الصبور مستغربات ..
     فقال وهو يضرب كفاَ بكف :
     " أخذوا منى الحصان يا ستى "
    وبكت المرأة وسالت دموع الفتيات .. ودفعوا جميعا العربة إلى حظيرتها ، ودخلوا البيت وأغلقوا الباب ..
     ولم يتعش عبد الصبور وكذلك أسرته .. وخيم على البيت جو من الحزن الكئيب .. ولما كان وجود عبد الصبور فى البيت سيزيده حزنا على حزنه ، فقد خرج إلى المقهى الذى اعتاد الجلوس فيه كل ليلة ..
     وجلس يشرب الشاى الأسود ويدخن " الجوزة " ورأى الجالسين فى المقهى يلعبون النرد والورق .. وكان يود أن يتحدث معهم ويقص عليهم قصته ..
     ولكن أحدا منهم لم يعره سمعه .. فجلس وحيدا على رصيف المقهى ، وكانت العربات تمر أمامه فى الطريق .. وحوافر الجياد تضرب فى الأرض وكان ينظر إليها متحسرا ، وتذكر جواده المسكين ..! ولم يكن يدرى ماذا يفعل .. وأخيرا نصحه أحد الأفندية بأن يكتب إلى مدير " الشفخانة " فغادر المقهى وهو يفكر فى هذا ..
     ولما رجع إلى البيت ، علم من زوجه أن فى المنزل الحديث المواجه لبيتهم طالبا فى كلية الطب .. وقد يساعدهم فى محنتهم .. وذهب إليه عبد الصبور فى الصباح فلم يجده .. وعاود الكرة مرة أخرى فى المساء هو وزوجته ودرية كبرى بناته ..
     ودخلوا على الطالب فى غرفته ، وكان جالسا على مكتب صغير عليه أكداس من الكتب والأوراق ، ونهض من مقعده ، وصافحهم ورحب بهم ، وأجلسهم أمامه فى نصف دائرة على كراسى من القش ..
     ونظرت إليه درية ، وكان نحيلا شاحب اللون .. حتى ظنت أنه لايجد كفايته من الطعام ..
     وهمست فى أذن والدها بما يدور فى خاطرها ، فقال لها أن ذلك من كثرة الاستذكار ..! فعجبت لهذا وصمتت ..
     واستغرب الطالب لزيارتهم له ، ولم يكن يختلط بسكان الحى ، وظنهم من أقرباء خادمته العجوز ، ولهذا احتفى بهم وقدم لهم القهوة ..!
     ولما حدثه عبد الصبور عن الجواد ، نظر الطالب إلى درية .. وقال وهو يبتسم :
     ـ اننى طالب طب يا عم عبد الصبور .. طب بشرى لا بيطرى ، ومع هذا سأرى المسألة ، فإنى أعرف الدكتور عصمت وهو طبيب بيطرى فى المدينة ومن أصدقاء والدى وسأذهب إليه غدا ..
     فشكره الأسطى وانصرف هو وأسرته ..
***  
     وفى اليوم التالى أرسل عبد الصبور إلى الطالب زوجه ومعها درية لتسألا عن الجواد .. فاستقبلهما بترحاب أكثر ، وقال لهما :
     ـ إن الجواد مجروح حقا .. ولا يمكن لأحد أن يخرجه من الشفخانة إلا بعد أن يشفى تماما ..
     وخرجتا من عنده حزينتين ..
     وكانت درية تفكر وهى راجعة إلى بيتها فى هذا الطالب المسكين وتعجب لشحوب لونه واصفرار وجهه ..
     ولما هبط المساء ظلت طول الليل تفكر فيه .. إنه صموت قليل الكلام ، ولكنه عندما يتحدث .. يتحدث فى هدوء ، وكان يطيل النظر فى وجهها ، وكانت هى تضطرب لهذا ولا تعرف السبب ..!
     وبعد يومين من المقابلة الأولى والثانية ، كان طالب الطب يشغل كل وقتها وكل تفكيرها ..!
     كانت تفكر فيه نهارها وليلها ، تراقبه من نافذتها فى النهار .. وتراه وهو خارج إلى الكلية .. وتبصره وهو عائد منها .. وترى نور غرفته فى الليل ، وهو ساهر يستذكر دروسه .. وكانت تسهر حتى يغلق النافذة .. ويطفىء النور .. وتظل تتقلب فى فراشها وصورته لاتبرح ذهنها إلى الصباح .. ولم يكن هو يحس بشىء من شعور درية نحوه ، لأن اعجابها به كان صامتا ..
      وتطور الاعجاب على مر الأيام إلى حب أكيد تغلغل فى الأعماق ، ونفد إلى سويداء القلب .. وكانت سلوتها الوحيدة أن تراه عن قرب ، وتروح وحدها لتسأله عن الجواد ..
     وكانت تتمنى من كل قلبها أن يظل الجواد فى " الشفخانة " لتجد السبيل إلى الذهاب إلى بيت الطالب ..!
     كان الحب قد استبد بها وأخذ منها كل مأخذ .. وكانت تتحدث إلى الطالب ، وهى لاتقوى على رفع عينيها إلى وجهه ، كانت تنظر إليه فى استكانة وذلة .. كانت تحبه إلى درجة العبادة ، وكانت تتمنى أن تقبل قدميه ، وتمرغ وجهها فى رجليه ..
     وبعد أيام عاد الجواد إلى البيت وسروا به جميعا ورقصوا طربا لمقدمه إلا درية .. فإنها حزنت لذلك حزنا شديدا .. لأنها لن تجد بعد ذلك سببا يدعوها إلى زيارة الطالب فى بيته .. حزنت غاية الحزن ، وكانت تنظر إلى الجواد فى غضب ومقت شديدين ..
     وساءت بها الحال حتى هزلت ومرضت .. وامتنعت عن تقديم الطعام والشراب للجواد .. وتركت هذا لأمها وأختها حسنية ..
      وكانت كلما مرت على الجواد تحدثه بصوت خافت :
     " لماذا عدت أيها الأحمق .. ألا تعرف حبى ..؟ لماذا لم تتمارض من أجل درية المسكينة ..! ألست عزيزة عليك ..؟! "
وذات ليلة كانت ساهرة فى فراشها ، وقد بلغ منها الغضب مبلغه ، وسمعت صهيل الجواد ، وخطر لها خاطر سريع .. فتناولت سكينا ونزلت إلى فناء البيت حيث الجواد ..
     هبطت السلم على أطراف أصابعها ، حابسة أنفاسها حتى اقتربت من الجواد .. ووقفت بجواره خائفة ترتعش أكثر من دقيقة كاملة .. وكانت تفكر .. لو أنها جرحته فى رجله فقد يرفسها رفسة قاتلة .. ووقفت تفكر وتتخير المكان الملائم ..
     وبصر بها الأسطى عبد الصبور ، وهو عائد من الخارج .. رآها واقفة بجوار الجواد وفى يدها السكين ، فنظر إليها فى عجب ودهشة ، ولم يستطع أن يفهم شيئا ..!
===============================  
نشرت القصة فى صحيفة " السوادى" بتاريخ 2/2/1948 وأعيد نشرها فى كتاب " العربة الأخيرة " ل محمود البدوى سنة 1948  
================================

     



ليلة لن أنساها

       كان ذلك فى أوائل الصيف .. والحرب على أشدها وكانت القاهرة تعج بالجيوش الإنجليزية  منها يذهبون إلى الميدان وإليها يعودون  حيث يمرحون ويعيثون فسادا فى هذا البلد الطيب .. وانتشر التيفوس فى القاهرة وسقط أخى صريع المرض .. ورأى الطبيب نقله إلى مستشفى الحميات فى الحال .. وأستدعى عربة المستشفى وجاءت بعد أربع ساعات .. فقد كانت الحمى منتشرة فى ذلك الوقت كالطاعون وكانت عربات المستشفى تعمل طول النهار وطول الليل فى نقل المرضى ..
وأنزلنا أخى إلى العربة وأضجعناه على السرير فى داخلها وجلست أمامه وجلس بجوارى عمال المستشفى .. وكانت العربة قذرة من الداخل والخارج .. والفراش الذى تمدد عليه المريض أشد قذارة من ملابس الممرضين وكان منظرها كئيبا يبعث الانقباض إلى النفس ..
وجلست صامتا طول الطريق فلم أتبادل كلمة واحدة مع إنسان وكان أخى يدور ببصره فى سقف العربة يهذى .. ولم يكن يحس بشئ مما حوله .. وكانت العربة ترض أجسامنا .. والغبار يتطاير منها فى الطريق .. والجو خانق الحرارة ..
وعندما بلغنا العباسية صعدنا فى طريق المستشفى الطويل المترب رأيت نعوشا تنحدر إلى المدينة .. كانت خارجة من المستشفى إلى المقابر وليس آلم للنفس من هذا المنظر .. إنه يغرقك فى طوفان من الأحزان ..
ولما دخلت المستشفى ووجدت هذه الوجوه الشاحبة وهذه الأجسام الهزيلة ممددة على الأسرة وحولها الذباب تملكنى رعب قاتل .. وحاولت أن أنسى صورة هؤلاء التعساء الفقراء الذين رأيتهم فى خيام المستشفى .. حاولت أن أنسى كل هذه الصور البشعة وأنا راجع وحدى فى الطريق .. بعد أن ولى النهار وخيم الظلام .. واختفت النعوش من الطريق المنحدر .. حاولت أن أنسى كل هذا ولكنى كنت أحاول عبثا ..
كانت هذه أول مرة أدخل فيها المستشفى وكان ما شاهدته أكثر مما تتحمله أعصابي فأخذت وأنا راجع وحدى فى ذلك الشارع الطويل المقفر أتمثل هذه الأشباح الآدمية وقلبى يذوب حسرات ..
ركبت الترام ولا أدرى كيف بلغت منزلى .. فقد كنت كمن فقد عقلة جملة واحدة ..
بحثت عن مفتاح الباب فى جيبى فلم أجده وتذكرت أنى  تركته داخل البيت وأنا ذاهب إلى المستشفى ووقفت ساهما .. فقد ضاعف هذا الحادث من أحزانى .. فما الذى أفعله فى هذه الساعة من الليل وليس لى قريب فى القاهرة ..؟ وليس معى من النقود ما يكفينى لركوب سيارة إلى قلب القاهرة والنزول فى فندق ..
ضربت الباب بقبضتى فى عنف وقوة .. وسمعت صوتا نسائيا آتيا من أعلى :
-      مين ..؟
سمعت هذا الصوت لأول مرة وتذكرت أنه يسكن فى أعلى البيت بقال صغير متزوج  يشغل غرفتين على السطح ..
فقلت بصوت خافت :
-      أنا صلاح ..
وسمعت حركة ثم رأيت نور مصباح يلقى بضوئه على السلم وسقط النور على وجههى وأنا أرفع رأسى ثم تحرك الضوء إلى الحائط  وهبطت حاملة المصباح السلم .. ورأيتها وهى تنزل الدرج فى تؤدة ولين وأحسست بجو عطرى يملأ خياشيمى .. على الرغم من رائحة البترول المتصاعدة من المصباح المحترق ..
وقفت على درجتين فوقى .. فرفعت وجهى إليها وقلت :
-      نسيت المفتاح .. تسمحى بأى مفتاح أجربه ..؟
فقالت مسرعة :
-      حاضر .. وازى أخوك ..؟
-      بخير ..
فصعدت السلم مرة أخرى وعادت وهى تلهث وناولتنى المفتاح ..
وجربته فى الباب فلم ينفتح .. وحاولت معالجته بالقوة فاستعصى علىّ .. فوقفت يائسا مطرقا .. وسمعتها تقول :
-      اتفضل بات فوق ..
فاعتذرت .. وألحت .. ولم أر أمامى سوى هذا السبيل .. وكان التعب قد بلغ منى منتهاه فصعدت وراءها ..
وبلغنا السطح .. ودخلت أمامى إلى غرفتها .. وكنت أتوقع أن أرى زوجها نائما .. فلما لم أجده .. سألتها عنه .. فقالت :
-      انت مش عارف ..؟ ما هو محبوس ..
-      ليه ..؟
-      باع علبة كبريت أزيد من التسعيرة ..
ضحكت ..؟ بقال صغير يقع فى يـد القانون وكبار اللصوص يمرحون فى الأرض ..!
-      وبتنامى هنا وحدك ..؟
-      أيوه ..
وجلست على كرسى خشبى أنظر إلى أثاث الغرفة وقد كان يدل على فقر شامل .. كنبه باهتة اللون فى مدخل الباب .. وسرير حديدى فى زاوية من الغرفة .. ومرآة مهشمة فى الحائط .. وبعض الملابس معلقة على مشجب وعلى شباك السرير وكل شيء يدل على الكآبة .. أما الغرفة الأخرى فقد جعلتها كمطبخ ومخزن ..
وجلست صامتا أحدق فى ذبالة المصباح وهى تتمايل مع الهواء ..
وأخذت صاحبتى تتحرك أمامى فى نشاط وحيوية .. وهيأت الغرفة وسوت السرير .. وملأت القلة ..
وشعرت بأنفاسها العبقة .. وهى تروح وتجئ أمامى .. وأحسست بالراحة وانزاح الهم عن صدرى .. وتجدد نشاطى كله .. ونسيت ما كابدته طول النهار من شقاء وتعب ..
وأخذت أحادثها حتى مضى جزء من الليل وعلمت من حديثها أنها تعرف كل شيء عنى على الرغم من أننى لم أرها سوى هذه المرة وتلك هى طبيعة المرأة .. حدثتنى أنها شاهدت العربة وهى تحمل أخى وشيعتها بالدموع .. وكانت تود فى الصباح أن تحدثنى عندما أبصرت الطبيب ورأت ما على وجهى من مظاهر الاضطراب الشديد ولكن الحياء عقد لسانها .. فشكرتها على هذا كله ..
ولما أشارت إلى السرير لأنام رفضت وطلبت منها أن تفرش لى فى خارج الغرفة على السطح .. فأبت .. ثم رضخت لما رأت إلحاحى الشديد ..
وتمددت على الأرض .. وعيناى إلى النجوم فى السماء الصافية الأديم .. لقد نمت فى العراء من قبل على سطوح المنازل فى الريف .. وفى قلب الحقول .. ولكننى لم أشعر فى أيامى الخوالى بما شعرت به فى تلك الليلة من توتر وقلق واضطراب ..
إن على قيد خطوات منى امرأة غريبة فى ربيع عمرها .. وتعد فتنة فى بنات جنسها .. قد أطفأت المصباح .. وتركت باب غرفتها مفتوحا تكرما منها وتأدبا .. وأنا أسمع بين كل لحظة وأخرى حركة جسمها على السرير .. فكيف أنام ..؟
أخذت أعد النجوم فى السماء حتى غفوت .. واستيقظت مع الفجر .. وأنا شاعر بالعطش الشديد .. وبحثت عن القلة حولى فلم أجدها .. ثم رأيتها وقد وضعتها على منضدة رخامية قرب الباب .. فاتجهت إليها .. ودخلت الغرفة على أطراف أصابعى .. مخافة أن تصحو صاحبتى .. ووقع نظرى عليها وهى نائمة على السرير .. وقد تهدل شعرها وانحسر ثوبها عن ساقيها .. وقفت عند مدخل الباب أنظر إليها وإلى القلة وأسائل نفسى :
- من أين أرتوى ..؟
وشعرت بخفقان شديد فى قلبى .. وباضطراب سرى فى جسمى .. وبالعرق قد أخذ يسح على جبينى .. ووقفت فى مكانى ساهما .. وبصرى معلق لا يتحول عنها .. ولو فتحت عينيها فى تلك اللحظة وشاهدتنى لأنكرتنى ..
شربت ورجعت إلى السطح .. ووقفت على حاجزه أرقب المدينة الشامخة وهى تتنفس مع الصبح .. وظللت فى مكانى مستغرقا فى خواطرى حتى لاحت خيوط الشمس .. فانثنيت عن الحاجز .. فوجدت صاحبتى قد استيقظت .. وأخذت تنشر فراشها ..
فقالت وهى تبتسم فى رقة :
-      ازى ما أصبحت ..؟
-      الحمد لله أشكرك ..
-      نمت كويس ..؟
-      أيوه ..
-      ما فيش برد ..؟
-      أبدا ..
-      ولا تخافشى وحدك ..؟
فضحكت ..
-      أنا فلاح .. حرست وحدى الأجران فى الغيطان .. وفى قلب الليل ..
-      على كده كنت الليلة حارسى ..؟
-      وحافضل حارسك لغاية ما يرجع زوجك ..
ونظرت إلىّ نظرة طويلة وصمتت ..
وجئت بنجار فتح الباب .. ودخلت معى الشقة .. ولما رأت ما فيها من غبار وسوء نظام طلبت منى أن أعطيها المفتاح .. فأعطيته لها بعد أن شكرتها .. وانصرفت إلى عملى ..
وكنت أعود من قبل إلى البيت متثاقلا وبعض الأحيان لا أعود إلا فى الليل لأنام .. فقد كان البيت ثقيلا على نفسى .. لم يكن لى فيه ما يؤنسنى .. أما الآن .. فقد رجعت سريعا .. ووجدتها قد قلبت كيان البيت كله ..
نظمت كل شيء .. وغسلت لى ملابسى .. وطبخت أيضا .. وأكلنا معا .. وذهبت إلى المستشفى لأعود أخى ..
عدت بعد الغروب .. ولما سمعت حركة أقدامى على السلم هبطت إلىّ مسرعة وطمأنتها على الحالة فسرت .. وتعشينا وجلسنا نتحدث على السطح .. ولم يكن فى المنزل أحد سوانا ..
فقد كان فى الطابق الأرضى أحد الأجانب وكنت لا أراه إلا لماما .. فقد كان تاجرا كثير السفر بين القاهرة والإسكندرية .. أما زوجته فقد كانت دائما مغلقة عليها الباب .. ولا تختلط بأحد من السكان ..
وبقينا على هذا أسبوعا كاملا .. وفى كل ليلة كانت تثور غريزتى .. وفى كل ليلة كنت أكبح جماح نفسى وأردها عما تبغى . وفى كل ليلة كان يعاودنى الشيطان فيحدثنى .. أن الظروف جمعتنى مع امرأة حلوة فى بيت واحد وهى الآن فى متناول يدى .. وإذا لم أرو منها شبابى الآن فلن أستطيع ذلك غدا .. وهى فرصة ذهبية أتيحت ولن تعود ..
***
رجعت من المستشفى ذات يوم وأنا فى حالة شديدة من اليأس .. فقد ارتفعت حرارة أخى إلى درجة خطيرة .. وغاب عن وعيه مرة واحدة .. وتركته بعد الساعة الثامنة مساء وأنا أجر نفسى فى طريق المستشفى جرا ..
ركبت الترام ونزلت فى قلب القاهرة .. وقادتنى رجلاى إلى حان من الحانات .. وأخذت أشرب لأغرق فى الكأس أحزانى وأخدر أعصابى وكان فى الحان كثير من الجنود الانجليز .. يملأون الدنيا صياحا .. ويغنون أغانى بشعة .. وكنت أنظر إليهم بغيظ مستعر .. وأود لو أحطم أنوفهم ..
وبلغت البيت قبل منتصف الليل .. وأحست بى سعدية ولعلها كانت تنتظرنى .. فهبطت مسرعة وابتدرتنى بقولها :
-      شغلتنى .. ازى الحال ..؟
فصمت ولم أقل شيئا .. ورفعت إليها عينين حمراوين تجول فيهما الدموع .. واقتربت منى .. ووجهها على فمى .. فقلت بصوت خافت :
-      فى أسوأ حال ..
فوضعت يدها على عاتقى وقالت :
-      فكر فى رحمة الله ..
ولم أكن فى ذلك الوقت أتوقع رحمة من الأرض أو من السماء ..
ودخلت إلى غرفتى .. وجلست على الفراش وأنا مطرق برأسى .. وشعرت كأنى أحمل وحدى شقاء الناس جميعا .. اقتربت منى سعدية وجلست بجانبى .. ومدت وجهها إلىّ وقالت :
-      صلاح .. انت سكران ..؟
فأمسكت بيدها .. ونظرت إلى عينيها ..  وسبحت عيناى فى الضوء والبريق والظلام ..
سبحت عيناى .. وجردتها بخيالى من كل ملابسها .. وتمثلت لى الفتنة التى تطل من كل شيء فيها .. 
وطوقتها بذراعى وهى تتمنع .. ثم لانت أخيرا .. واستسلمت ..
***
وفى صباح اليوم التالى ركبت الترام إلى المستشفى .. وكنت أشعر بقلق وخوف ورهبة ..
كانت مئات الخواطر السوداء قد طافت برأسى .. كنت أقدر أن نقمة السماء نزلت بى ..! لهذا تشاءمت جدا ودخلت المستشفى وجريت مسرعا إلى غرفة أخى ..
كان سريره خاليا .. فتسمرت فى مكانى ..
رأيت الممرض داخلا .. وفهمت من نظرته كل شيء .. لقد انتهى أخى فى الليل .. وهو الآن فى ثلاجة المستشفى ..
***
ومع الشمس الغاربة .. كنت أسير وحدى منكس الرأس حزينا واجما .. إلى المحطة .. وتركت القاهرة إلى الأبد ..
ــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى كتاب " العربة الأخيرة " سنة 1948
ــــــــــــــــــــ













الدرس الأول


     كنت قد تبطلت نصف عام كامل وضاقت بى سبل العيش فلم أوفق لعمل فى طول هذه المدينة وعرضها ..
     كان هناك قدر عات يسد فى وجهى السبل وحظ عاثر يأخذ علىَّ كل طريق وأخيرا بدا لى أن أفعل شيئا ..
     فقد درست الموسيقى فى أيام الحداثة دراسة لا بأس بها ، فلماذا لا أعطى دروسا لعشاق هذا الفن الجميل ..؟
     وعلقت لافتة كبيرة على شقتى الصغيرة فى شارع حسن الأكبر وانتظرت الفرج ..
     ومضى شهر كامل ولم يحضر أحد ..
     وكنت أتضور جوعا وأعانى عذاب حرمان لايصور ، وكان الوقت شتاء ، فاجتمع علىَّ البرد والجوع والعذاب الأسود ، وكنت كلما نزلت إلى الشارع ولمحت اللافتة الكبيرة المعلقة على شرفتى أزداد غيظا وحنقا ..
     وكان هناك سيرك شعبى بالقرب من ميدان باب الخلق وعلى مسافة قصيرة من المنزل ، وكان دائما صخابا عامرا بالناس ، وكنت أسمع منه كل مساء موسيقى رخيصة مبتذلة ، فيأخذنى الدوار ، ويشتد سخطى على الناس أجمعين ..
***  
     وفى مساء يوم سمعت الجرس يدق ، فأسرعت إلى الباب وقلبى يضطرب بين ضلوعى ، ورأيت على الباب فتى نحيلا فى مقتبل العمر ، يحرك يديه فى اضطراب وعلى وجهه دلائل الارتباك الشديد ..
     وقال فى صوت خافت :
     ـ أهذه شقة أستاذ الموسيقى ..؟
     ـ أجل ..
     ـ أريد أن آخذ دروسا ..
     ـ تفضل ..
     وأدخلته فى غرفة صغيرة مطلة على الطريق ، كان بها بعض الآلات الموسيقية ، زصور كثيرة على الجدران .. لـ سيد درويش .. وبيتهوفن .. وفاجنر .. وموزارت .. وشوبير ..  
     وجلست إلى مكتبى ، وجلس الشاب أمامى منكمشا على نفسه ، ولاحظت بعد قليل أن يده اليمنى ترتعش قليلا ، كما أنه يهز ساقيه ولا يستطيع الثبات على كرسيه إلا بجهد عظيم ، وأدركت من النظرة الأولى إلى عينيه ويديه أنه يعانى اضطرابا عصبيا شديدا ، فتلطفت معه فى الحديث حتى زال ارتباكه وهدأت أعصابه نوعا ..
     ثم سألته :
     ـ أى آلة تحب أن تتعلم ..؟
     ـ الكمان ..
     ـ هذا حسن .. ومن الذى أرسلك إلىَّ ..؟
     ـ الدكتور هلال ..
     ـ الدكتور هلال حدثك عنى ..
     ـ لا أقصد هذا .. وإنما أقصد أن الدكتور أشار علىَّ بدراسة الموسيقى لأننى مريض بالأعصاب ..
     ـ إنك لست مريضا .. بل أنت فى أتم صحة ..!
     ونظر إلىَّ بعينين فيهما لواعج الأسى ، وصمت . وفى تلك اللحظة كنت قد تناولت العود وعزفت له قطعة تركية شجية ، ووجدته فى خلال ذلك قد أرسل بصره من النافذة المفتوحة إلى السماء الصافية الأديم ، واستغرق فى عالم الأحلام ..
     واتفقت معه على أن يحضر ثلاثة أيام فى الأسبوع ، وحيانى وانصرف ..
*** 
     وجاء لأخذ الدروس ، وكان فى الأسابيع الأولى يحضر فى الميعاد ، ثم أخذ يتأخر ولاحظت عليه الملل ، فسألته :
     ـ ألا تحب الموسيقى ..؟
     ـ أكثر من أى شىء فى الحياة ..
     ـ لماذا لا تحضر فى ميعادك إذن ..؟
     ـ إننى أجاهد فى كل مرة ، ولكننى لا أستطيع .. مرة يأخذنى النعاس ومرة أخرى أجد نفسى جالسا فى غرفتى وأحس بشىء ثقيل يحط على صدرى ويمنعنى من الحركة .. فأظل فى مكانى ساعة وأنا أفكر .. ويلذ لى التفكير وأسائل نفسى : ما جدوى كل هذا ..؟ باطل الأباطيل .. موسيقى ..! ولمن أتعلم الموسيقى ..؟ ولماذا ذهبت إلى كل هؤلاء الأطباء ..؟! ولماذا لا أموت وأستريح ..؟
     ـ يجب أن يكون لك هدف فى الحياة ..
     ـ هدف ..
     قال هذا فى استخفاف وقهقهة ، ثم نظر إلىَّ بعينين منطفئتين وقال :
     ـ إننى هالك يا سيدى إن لم يكن اليوم فغدا .. وأنا أغالط نفسى وأطاوع زوجتى وأذهب إلى الأطباء ، ولكنى أعرف فى دخيلة نفسى أن لا فائدة ترجى من هذا كله ..
     ولأول مرة أعرف أنه متزوج ، ولم يكن يدور فى خلدى ذلك قط ، فهو أشبه بطالب صغير فى مدرسة ثانوية ، فى كل حركاته وسكناته دلائل الطفولة ..
     ـ وسألته :
     ـ أين تسكن ..؟
     ـ فى مصر الجديدة ..
     ـ ولهذا تتأخر ..
     ـ ليس للمسألة دخل فى هذا ، وإنما أنا مريض .. مريض ..!
     فابتسمت فى وجهه وناولته الكمان لأول مرة ، فقد رأيت أن أعفيه من دراسة النوتة قبل أن يسأم وينصرف عن الدرس كلية ..
     ومرت شهور ولم يتقدم فى خلالها شيئا ، وكانت أصابعه تسيل عرقا ، مع أننا كنا فى صميم الشتاء ، ويده التى تمسك بالقوس تنتفض دائما ، وكان يلاحظ هذا أكثر منى ، ويظهر على وجهه الألم ..
     وكنت أتجاهل ذلك ، وأبذل معه كل جهد مستطاع لأجعله يتقدم ، ويحس فى أعماق نفسه بالراحة ، وبأنه أصبح شيئا وبذلك تعود إليه سكينة نفسه ، ولكن جهدى كله كان يذهب هباء ، فقد كانت يده دائما ترتعش وأصابعه لا تثبت فى موضعها ، وكان يعانى من ذلك غما شديدا . واشتد عليه الألم مرة فوضع الكمان والقوس جانبا ، وجلس يبكى كالأطفال ، فتركته حتى هدأ ، ثم عرضت عليه أن يتعلم العود لأنه أسهل كثيرا ، وبعد شهور قليلة سيجد نفسه عازفا للمقطوعات التى يحبها . ولما الفيته قد استراح إلى كلامى هذا وعاد إليه الأمل من جديد ، قلت له :
     ـ وسأوفر عليك مشقة الحضور بإعطائك الدروس فى بيتك ..
     وسر لهذا كثيرا ..
*** 
     وذهبت إليه فى بيته ، وفتحت لى الباب سيدة شابة رائعة الجمال ، وكأنها كانت تتوقع قدومى ، فما رأتنى حتى دعتنى إلى الدخول وهى تبتسم فى رقة بالغة ، ووجدت تلميذى جالسا فى الصالة ، فنهض واستقبلنى مرحبا وقدمنى للسيدة التى فتحت لى الباب ، وهى زوجته ، ومدت لى يدها الرخصة ..
     وجلسنا نحن الثلاثة حول مائدة صغيرة نتحدث ، واسترسلت معها فى الحديث حتى نسيت الدرس ، ونسيت أنها أول زيارة لى فى بيتها ، والحق أن الهدوء الذى وجدته فى البيت جذبنى إليه ، فلا ضوضاء ، ولا صياح أطفال ، ولا صوت خدم ، وإنما سكون مطلق ، وجمال وبساطة فى الأثاث ، وكانت السيدة " اسبور " صبوحة المحيا ، رقيقة المشاعر ، وكان وجهها ساكنا ، وعليه مسحة حزن ظاهر ، وعيناها نديتين براقتين فى سواد أخاذ ..
     وابتدأت الدرس مع زوجها ، وتركتنا فى أثناء الدرس لتعد العشاء ..
     وبعد الدرس عزفت لهما أكثر من ساعة على العود ..
     وحملتنا الموسيقى على أجنحتها الذهبية إلى رياض البسفور ، وسرت السيدة كثيرا عندما علمت بأننى تعلمت الموسيقى فى استامبول ، وتمنت أن تذهب مع زوجها إلى هناك ، ولعل سحر البسفور يحدث فى نفسه أثرا ..
***  
     وتقدم رمزى فى دروسه ، وتكررت زياراتى لمنزله حتى أصبحنا صديقين ، ولاحظت أن الرابطة بينه وبين زوجته مقطوعة ، فهو يبغضها بغضا شديدا ، ويحتقرها فى أعماق نفسه ، ويشعر بالراحة والسكون كلما ابتعدت عنه ، وكنت أجاهد لأقرب ما بينهما من مسافة ، ولكن جهودى كلها ذهبت دون جدوى ، فقد كان منطويا على نفسه ، زاهدا فى المرأة ، أو عاجزا عنها ، ولعل ذلك هو علة أعصابه . وكان كلما شعر بعجزه أمامها اشتد كرهه لها ونفوره منها ، وكان شعوره بالنقص وإحساسه المرهف بحاله قد أتلف أعصابه . والواقع أن وجود المرأة معه تحت سقف واحد قد زاده عذابا وألما ، على خلاف ما كان يقدر الطبيب ..
     وقد سألت زوجته عن أسرته ، فعلمت أن أمه كانت أجنبية وقد تزوجها أبوه وهو يدرس فى الخارج ثم عاد بها إلى مصر ، وكان هناك نزاع دائم مع أسرته بسببها ، وكانت دائما حزينة عليلة ثائرة ، وفى هذا الجو العاصف وضعت رمزى ، وفى العاشرة من عمره ماتت وتركته لأبيه ، وكان يحبه كثيرا ، فنشأ مدللا ، ثم مات أبوه وخلف له إرثا يغنيه عن الناس ، ولكن رمزى كان يقف على عتبة الحياة وحيدا عليلا لايعرف الكفاح ، فسقط صريع المرض .. وأشار عليه الأطباء بالزواج ، فتزوج من هذه المسكينة التى كانت تعانى كثيرا فى عشرتها معه ، فقد كان يثور لأتفه سبب ويبكى كالأطفال ، ويلعنها ويسبها أمامى ، وهى صامتة صابرة ، وفى عينيها الدمع ..
***  
     وكنت مرة فى بيته ساعة الغروب ، وسمع جرس الباب يدق ، فلاحظت أن وجهه أصفر ، ومشى إلى الباب وهو يرجف ، ثم رجع دون أن يفتحه ويرى من الطارق ، وأخذ يصيح فى وجه زوجته :
     ـ شوفى من .. قلت لك ألف مرة لا أريد لبانا ولا خبازا يجىء إلى هنا .. لا أريد أحدا يعكر علىَّ سكونى ..
     ثم مضى إلى غرفته ، وهو يمشى فى حذر ووجل ، وأغلق عليه الباب حتى لا يحس بشىء مما يجرى فى البيت ..
*** 
     وفى الدرس التالى وجدته مريضا ، وعلمت من زوجته أنه تعارك معها البارحة ، وترك البيت ثائرا محتدا ، ثم رجع ونام فى الفراش ، ومن وقتها لم يتحرك .. وكانت صفرة وجهه وبروز عظام خديه قد أثارت الشك فى نفسى ، فحدثت زوجته عن ضرورة استدعاء الطبيب ، وجاء الطبيب ووجد عنده التهابا فى الرئة ، ونقلناه بعد يومين إلى المستشفى ..
     وكان له بعض الأقرباء يزورونه ، ولاحظ الطبيب أن وجودهم يثير أعصابه ، فمنع الزيارات عنه ، وبقيت أنا وزوجته نساعد على تمريضه ..
     واشتد عليه المرض ، فحجزنا سريرا لزوجته بجواره ، وكان يستنشق الأكسجين فى الليل ، وكنت أعاون الممرضه فى مسك الجهاز المملوء بالأكسجين ، وأظل ساهرا فى المستشفى إلى ما يقرب من منتصف الليل ، واشتد عطفى على زوجته فى خلال ذلك ، فقد كانت تسهر فى كثير من الليالى إلى الصباح وهى واقفة بجوار سريره ، ومع ذلك لاتشكو ولا تتبرم ..
     وكنت أرى هذه المسكينة تروح وتجىء أمامى  وشبابها يذبل .. وعودها آخذ فى الجفاف .. فيعصر قلبى الأسى .. لقد عاشت السنين التى قضتها معه فى برودة شديدة ، فما أحست بالدفء .. ولا شعرت بإعصار الرجولة يلفها .. ولا قوة الشباب الدافق تسرى فى كيانها ، فقد عاشت هذه السنين وكأنها ما عاشت ، ولقد أدركها اليأس وبرح بها الحزن القاتل ، وظهر على وجهها الذبول ، وروحها الانكسار ..
     وكثيرا ما التقت عيناى بعينيها الصافيتين الذابلتين .. ولمست يدى يدها .. ولمس جسمى الفوار بالدماء جسمها الذى يود لو يشتعل .. وكثيرا ماقرأت فى عينيها النداء .. ولكن إذا نظرت إلى زوجها الذى أصبح صديقى .. أحول وجهى وأغمض عينى ..
***  
     كانت ليلة من ليالى الصيف الحارة ، وكنت جالسا قرب النافذة المطلة على حديقة المستشفى ، وبصرى يسبح فى الظلام ، ثم يرتد إلى الحديقة التى لفها الظلام فى برودته ، فبدت جهمة موحشة .. كان السكون يشمل كل شىء ، وكانت الممرضة واقفة على سرير رمزى ، وبجواره زوجته ، وقرب أنفه جهاز الأكسجين ، وعلى رأسه الثلج ..
     وكان وجهه محتنقا ، وعيناه حمراوين ، وكان يهذى ولا يعرف من حوله ، ويغلق عينيه ويذهب فى غيبوبة بعيدة ، ثم يفتحهما ويحرك ذراعه المعروقة حتى يمسك بكيس الثلج الموضوع على رأسه ويرمى به بعيدا ، وتنحنى الممرضة وتعيد الكيس إلى مكانه ، وهو يرقب هذا ببصر زائغ ..
     فى الساعة العاشرة سلمت على زوجة صاحبى ومشيت إلى الخارج .. وقابلتنى الممرضة فى الممشى .. ولما علمت بأنى ذاهب اقتربت منى وهمست :
     ـ ابق هذه الليلة .. فالسيدة وحدها .. وقد يحدث شىء ..
     وسرت فى جسمى رعدة عندما سمعت هذه الكلمات وبقيت لحظة مسمرا فى مكانى ، ومرت فى ذهنى صور سريعة عن النعش والحانوتى والمقبرة ، ثم اتجهت بخطى بطيئة إلى غرفة المريض ، ولما رأتنى زوجته راجعا نظرت إلىَّ بوجه ملتاع ، وأدركت كل شىء ..
     وجلست على الكرسى ، وجلست أمامى على السرير ، وفى ركن من الغرفة ينام صاحبى هناك ، لقد جمعتنى به الأقدار فى ساعة مظلمة من حياتى ، ولقد عشت من ماله ، وأكلت من طعامه ، وتطورت العشرة إلى صداقة قوية ، وأصبحنا لا نفترق نحن الثلاثة إلا قليلا .. وها نحن هنا كما كنا .. وكما نحب جالسين فى غرفة واحدة تحت سقف واحد ، وقد مضى جزء كبير من الليل وخيم السكون ..
     رفعت بصرى إلى زوجته وقلت لها وصوتى يرتجف :
     ـ لماذا لا تنامى .. لقد نام رمزى ..؟
     فنظرت إلىَّ طويلا ثم قالت فى عذوبة حبيبة :
     ـ وأنت .. كيف أنام وأتركك ساهرا ..؟
     ـ سأنام بعد قليل فى مكانى ..
     ـ أبدا .. سأظل ساهرة إلى أن تنام ..
     هززت رأسى أسفا وصمت ..
     ومضى جزء كبير من الليل ، وانقطع كل حس فى المستشفى ، وخف وقع أقدام الممرضات فى الطرقات ، وغلبنى النعاس أكثر من مرة ، وأنا جالس فى مكانى ، وغلب زوجة صاحبى كذلك ، ولاحظت هذا فابتسمت وقالت فى همس :
     ـ النوم غلاب ..
     تحرك المريض ودفع غطاءه ، وأزاح الكيس الثلجى عن رأسه ، فنهضت أنا وزوجته معا ، وأعدنا الكيس والغطاء إلى مكانهما ، وعلى فراش المريض لمست يدى يدها ، وأحسست بها تلتهب ، وضغطت عليها دون وعى منى ..
     لقد لمست يدها من قبل مرارا ، ولكننى لم أشعر بها حارة ملتهبة كما أحسست بها فى هذه الليلة ..
     تراجعنا عن السرير ، وعاد كل منا إلى مكانه ..
     ولكننى وجدت نفسى أرتعش ، فأطرقت برأسى وأغمضت عينى .. ولما رفعت وجهى ، وجدتها تنظر إلىّ وعيناها ناطقة بأبلغ الكلام ..
     إنها تنادينى فلماذا لا ألبى النداء ..؟
     تحركت دون وعى منى ولمست يدها مرة أخرى ..
     وفى مثل الإعصار كانت بين ذراعى ..
     واستفقنا على صوت ..
     كان المريض يهذى ، وكان فاتحا عينيه ، ولكن هل بصر بنا ، وهل عرف ما حدث ، أم لايزال فى غيبوبة ..؟
***   
     انسحبت من الغرفة ، وخرجت مسرعا فى الظلام ..
     وشفى رمزى ، ولما اشتعلت الثورة العربية فى فلسطين ، كان أول من عبر الحدود إلى هناك ، وأول من قتل من الثوار ..
     وقد تعلمت من هذا الدرس الأول أشياء كثيرة عن المرأة والحياة ..

===========================================
نشرت القصة فى كتاب " العربة الأخيرة " سنة 1948
=======================================


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق