الجمعة، 17 أبريل 2015



جسد وفنان

       حدث هذا منذ أربع سنوات .. وكنت قادما من العباسية ونزلت من الترام فى ميدان السيدة زينب لآخذ عربة الأتوبيس رقم 12 إلى منزلى فى الروضة .
   وكان الميدان غاصا بالناس .. فقد كان الوقت وقت انصراف الدواوين .. وخرج الطلبة والطالبات من المدارس ..
       وكان اليوم هو اليوم الأول فى الشهر الجديد ولهذا كثر الشحاذون حول المسجد وفى طول الطريق وعرضه .. وانطلق الباعة الجائلون ينادون على بضاعتهم بصوت مزعج .. والتف حولهم بعض السابلة .. وتطاير الغبار .. وأخذ الذباب يضرب الوجوه .. وكان الترام يدور فى الميدان بطيئا مكدسا بأكداس بشرية لا حصر لها .. وحرارة الشمس القوية تشوى الأبدان ويتصبب لها العرق على الوجوه ..
       وقفت تحت الشمس .. فى قلب الميدان .. عند موقف الأتوبيس .. لأركب عربة إلى بيتى .. وكانت العربات فى ذلك الوقت قليلة .. وثلاثة أرباعها معطلا .. فإذا أقبلت إحداها وهى تتهادى فى الميدان .. تدفق الناس عليها كالسيل .. وغمروا مقاعدها ومماشيها فى ثوان معدودات .. وظلوا فى عراك وشجار مع السائق والكمسارى إلى أن يؤذن العصر فى المسجد الزينبى ..!
       وكنت تجد عربة وعربتين وثلاثا واقفات فى هذا الميدان الكبير ساعة وأكثر من ساعة وهى محملة بالركاب .. ولا تتحرك منها واحدة ..! فاذا سألت عن السبب قيل لك إنها الحرب التى أفسدت كل شيء ..
       وقد ظللت واقفا فى مكانى مدة طويلة دون أن أستطيع الركوب فى هذا الزحام الشديد وبعد لأى ومشقة استطعت أن أضع رجلى فى عربة من هذه العربات ..
       ووقفت مع الواقفين فى وسط العربة فى تلك الدائرة الضيقة وكنا نتدافع بالمناكب ونلتقط أنفاسنا بصعوبة فى هذا الجو الخانق .. وكان يقف أمامى رجل يرتدى جلبابا أزرق .. وكان أقصر منى قامة وأكثر نحولا .. ولم يكفه ما كنا فيه من ضيق وكرب .. بل أخرج من جيبه سيجارة وأشعلها فى هذا الجو المحترق من حر الشمس ..
       وأنا لا أدخن ولا أحب رائحة الدخان .. ولا شيء يثير أعصابى كرائحته فى الجو الشديد الحرارة ولهذا شعرت بغيظ شديد .. وكنت أود لو أطبق بيدى على عنق هذا الرجل .. وأكتم أنفاسه قبل أن يكتم أنفاسي ..
       وتحركت العربة وهى تتمايل بنا فنترنح معها والدخان الأزرق يملأ الخياشيم .. ورائحة العرق تدير الرؤوس حتى اقتربت العربة من مستشفى قصر العينى وهنا نزل بعض الركاب .. فتحركت إلى الأمام بعيدا عن ذلك الرجل البغيض ..
       وأخذت أنظر من النافذة الصغيرة إلى الطريق حتى اقتربنا من أول محطة فى المنيل وتحرك رجل كان يجلس أمامى لينزل فى هذه المحطة واستدرت لأفسح له الطريق .. وفى أثناء ذلك لمحت امرأة تجلس على مقعد قريب منى .. ولا أدرى كيف لم تقع عليها عيناى من قبل .. فهى ولا شك راكبة معى من الميدان .. ولكنه الغضب الذى يعمى البصر فى مثل هذه الحالة ..
       شعرت بنسمة معطرة تهب علىّ من النافذة الصغيرة التى بجوارها .. ورأيت نفسى أنظر إليها ولا أتحول عنها .. وكنت كمن كان يساق إلى الموت ثم صدر الحكم ببراءته فى آخر لحظة فأخذ يرقص من الفرح .. فقد نسيت الدخان .. والزحام والحرارة .. وأحسست بفرحة كبرى وبنشوة لا حد لها .. ونظرت إليها .. وأنا عندما أنظر إلى امرأة جميلة تتركز حواسى كلها فى باصرتى ويطل قلبى من إنسان عينى .. ولاشك أنها لاحظت ذلك فقد رفعت وجهها ونظرت إلىّ .. والتقت عيناى بعينيها .. وكانتا بسامتين .. ساجيتين .. ثم عادت تنظر من النافذة بعد أن ضمت ملاءتها السوداء على نحرها العاجى ..
       كانت جالسة .. وجسمها كله ملفوف فى ملاءتها السوداء .. ولكن الفتنة الطاغية كانت تطل من هذا الجسم المتدثر بالسواد .. أكثر مما تطل من العينين الدعجاوين .. والوجه المليح القسمات ..
       وعندما اقتربت السيارة من منزلى .. شعرت بقلبى يغوص بين ضلوعى وانتابنى غم شديد وأخذت أنظر إليها متحسرا وأسأل نفسى .. أأترك هذا الجمال النادر .. وأنزل من العربة أم أمضى إلى نهاية الطريق .. وأخيرا أبديت حركة من يهم بالنزول .. ورأيتها للمرة الثانية ترفع وجهها .. وتنظر إلىّ فى تكسر ولين ..
       وهبطت من العربة وكأنى أهبط من السماء إلى الأرض ..!
       وبلغت منزلى وخلعت ملابسى وجلست إلى مائدة الطعام لأتغدى ولكنى لم أستطع أن آكل شيئا .. كان ذهنى لا يكف عن التفكير فى هذه المرأة .. وكانت صورتها لا تبارح خيالى .. وكنت أقول لنفسى لماذا لم أتبعها وأعرف منزلها لاتزود منها بنظرة كلما برح بى الشوق ..
       وعافت نفسى الطعام واشتد بى الضيق .. ففتحت كتابا وأخذت أطالع لتلهينى القراءة عن التفكير فيها .. ولكننى كنت أحاول عبثا .. فقد كنت أجد صورتها فى كل صفحة من صفحات الكتاب ..
       وزاد بى القلق فأخذت أروح وأجئ فى أرض الغرفة ثم ارتديت ملابسى وخرجت إلى الطريق .. وفى النفس أمل بأن ألتقى بها ..
       وركبت العربة الذاهبة إلى الجيزة .. ونزلت بعد كوبرى عباس وأخذت أتصفح وجوه المارين فى الطريق .. وتصورتها ذاهبة إلى حدائق الحيوان .. فدخلت الحديقة وبقيت فيها إلى الغروب ولكنى لم أرها ..
***
       ومر أسبوع .. وذات يوم كنت أتنزه على النيل فى رياض الجيزة وكانت الشمس تجنح إلى الغروب .. وشعاعها الأصفر يلاعب أديم الماء .. وكل شيء جميل ساكن .. وسرت على العشب متمهلا أمتع بصرى بمنظر الطبيعة الخلاب .. وأملأ رئتى بالنسيم العليل .. وأشاهد الوجوه الحلوة التى خرجت لتتريض فى تلك الساعة الممتعة من النهار ..
       وكان هناك بعض من أدركهم التعب فجلسوا على الأعشاب يمتعون البصر بمنظر الغروب .. فجلست مثلهم .. واتجهت إلى النيل .. ورأيت عن بعد امرأة ترتدى ملاءة سوداء جالسة وحدها على العشب .. وشعرت بقلبى يضطرب فنهضت من مكانى واتجهت إلى ناحيتها ونظرت إلى وجهها .. يا إلهى ..! .. إنها هى .. صاحبتى بعينها ..
     وأحسست بموجة من الفرح تغمر نفسى .. واقتربت منها حتى أحست بى .. ونظرت إلىّ بعينين باسمتين ..!
       ثم نهضت من مكانها .. هل أتركها إلى حيث لا أدرى هذه المرة أيضًا ..؟
       وتبعتها فعلا .. عرجت على شارع نافع .. وهو شارع مهجور مظلم ولعلها تعمدت ذلك لألحق بها هناك وأجد فرصة لمحادثتها .. واقتربت منها .. وتحدثت إليها .. كان صوتها عذبا أخاذا .. وافترقنا على لقاء فى الغد ..
***
       وفى مساء اليوم التالى كانت فى منزلى وقد لاحظت عليها عندما اجتازت عتبة البيت لأول مرة أنه لم يظهر عليها خجل الفتاة وهى تدخل منزل رجل غريب .. كانت كأنها داخلة فى بيتها .. وأبعدت هذه الملاحظة عن ذهنى .. فكل شيء فيها ملائكى طاهر ..
       وقد سرنى منها عندما احتوانا المخدع أن تسارع إلى النور فتطفئه .. إنها لا تحب أن تقع على جسمها عين رجل ..
       وفى صباح اليوم التالى جاءت بجميع ملابسها واستقرت معى فى البيت .. ولم أكن أعرف أين كانت تودع هذه الملابس وكيف كانت تعيش من قبل ولم اسألها عن ذلك وإن كنت قد عرفت أنها لا أهل لها فى هذه المدينة .. وأنها بوهيمية تذهب إلى كل مكان ..
       وأشهد أنها ربة بيت من الطراز الأول .. وقد شعرت معها بالراحة والسعادة .. وكانت تحسن تصريف الأمور .. وحلت لى كثيرا من المشكلات المنزلية التى كنت أعانيها .. على أنها مع هذا كانت مسرفة متلافة .. وليس للمال عندها وزن ..
       وكنت إذا عدت من عملى وأخذت أخلع ملابسى لأستريح أجد بدلة من بدلاتى القديمة قد اختفت فأسألها عنها ..
       فتقول وهى تبتسم :
       " لقد أعطيتها لأم محمد .. ابنها مسكين وسيلبس البنطلون فى الصيف والجاكتة فى الشتاء ..! ستنفعه فى فصلين .. أما أنت فما نفعها لك الآن ..؟ ستأكلها الصراصير ..!! ولا ينتفع بها أحد " ..
       وكنت أجد التعليل معقولا فأسكت ..
       وبعد ذلك اختفت بدلة ثانية .. وجلباب أيضًا .. وحذاء قديم .. وأشياء أخرى . وكنت أسير فى الحى فأجد سترتى على صبى الخباز وصديرى الصوف مع صبى المكوجى .. وحذائى القديم فى رجل خادم الجيران .. وكان هؤلاء الصبية عندما شاهدونى مارا فى الطريق يحيونى فى سرور .. وما كانوا من قبل يحفلون بى ..
       وكنت أمتعض فى أول الأمر لعملها هذا وأعده إسرافا فى الجود .. ولكن ما لبثت أن أدركت خطئى .. وتبينت أنها محقة .. وأنها خيرة بطبعها وأنه كان يجب علىّ أن أفعل هذا من قبل .. وأن الفرحة التى أشاهدها على وجوه هؤلاء الصبية الفقراء لا تقدر بمال ..
       ولم تكن تكتفى بهذه الملابس بل كانت تعطيهم الطعام والحلوى وكل ما فى جيبها من قروش ..
       وكنت ألاحظ أنه على الرغم من فقرها وجهلها للقراءة والكتابة .. فقد كانت نيرة العقل نبيلة العاطفة .. ذات فلسفة فطرية ..
       وكانت تعجب بمنظر الغروب من الشرفة .. وتبتهج لكل منظر طبيعى ساحر ..
       وتقول فى سرور ظاهر :
       - ما أبدع هذا المنظر .. وما أحوجه لرسام ماهر ..
       وكنت أعجب وأسأل نفسى كيف تعرف هذه الأمية الجاهلة الرسم والرسامين ..!
       وكانت تنظر إلى الماء الجارى عن قرب منا .. وتهتز كما يهتز العصفور إذا بلله القطر وتنادينى وهى تشير بيدها إلى حيث هناك القمر الفضى يسبح شعاعه على الماء :
       ـ  منير ..
       ـ نعم ..
       ـ أود أن أستحم فى النيل ..
       ـ هيا ..
       ـ وترضى .. ؟
       وهذا سؤال فى الصميم .. فإننى كنت أغار على جسمها من الثوب الذى يضمه .. فكيف أتركه لأعين الخلق ..
       وسألتها لفكرة فى نفسى :
       ـ بلقيس .. أذهبت إلى الإسكندرية ..؟
       ـ أبدا .. عمرى ما ركبت القطار ..
       ولاشك أنها كانت تكذب فإن الذى يرى أعمالها .. ويسمع حديثها .. يعرف أنها دارت حول هذا الكوكب ..
       وكانت تظل النهار بطوله ضاحكة مرحة تغنى وهى تطهو الطعام فى المطبخ .. وهى تنشر الغسيل فى الشرفة .. فإذا ولى النهار وانتشر الظلام .. اعتراها وجوم طبيعى يلازمها الهزيع الأول من الليل كله .. فتظل تفكر فى الموت والجوع والحرمان والعذاب الأسود .. وكان المستقبل يخيفها أكثر من الحاضر وعجلة الزمن دوارة والأيام لا ترحم ..
       وكانت ككل بنات جنسها .. تحب أن تعرف دائما منزلتها عند الرجل فأنزل معها إلى السوق .. وتدور تبحث ساعتين عن حقيبة يد أو جورب أو منديل رأس ..! فإذا اشترت هذه الأشياء أو بعضها .. تركتها فى زاوية من الغرفة ملفوفة فى ورقتها ولا تستعملها قط ..
       وكنت أعمل فى مكتبة الجامعة .. وكان عملى من الصباح إلى الظهر ومن العصر إلى ما بعد الغروب .. وكانت تستاء جدا لأن أتركها فى البيت وحدها بعد الظهر ..
       وفى كل يوم كانت تتعلق بى وأنا ذاهب لعملى .. وتقول بصوت رقيق وفى عينيها الدموع :
       ـ أرجوك .. لا تذهب .. إننى أخاف وحدى ..
       ـ ومن أين أعيش .. وهذا هو مورد رزقى ..؟
       ـ ليس من الضرورى أن تعمل .. أنا لا أحب أن تتركنى وحدى .. أرجوك ..
       وكانت تطوقنى بذراعيها .. وأحس بحرارة جسمها تسرى فى عروقى فأتخاذل وأذعن لأمرها .. وأتخلف عن الذهاب للمكتبة ..
       وكانت تسر لهذا جدا .. فهى بوهيمية بالفطرة .. ولا تحب أن يخضع إنسان لنظام معين فى الحياة ..
       وكانت تستيقظ مرة مع الفجر .. ومرة أخرى كانت تنام إلى الضحى .. وكنت أغلق النوافذ فى الصباح .. حتى لا يقع على بشرتها نور ولا شعاع من شمس ..!
***
       ومرت الأيام والشهور .. ونحن فى أشد شعور بالسعادة .. وكنت أعطيها كل ثقتى وكل حبى .. وكانت تحبنى أكثر مما تحب نفسها .. وكانت على مر الأيام قد عرفت الكثير من طباعى واشتد تعلقها بى .. وكانت تبكى كلما تصورت أنها ستعود إلى الشارع مرة أخرى .. وكنت أطمئنها وأبعد هذا الخاطر عن رأسها ..
       وسمعتها ذات يوم .. وأنا راقد فى فراشى تتحدث مع شخص بالباب .. وكان صوتها خافتا .. فشعرت بسحابة من الغم تغشانى ..
ولما دخلت الغرفة .. ونظرت إلى وجهها رأيته متغيرا .. ولم يكن من السهل عليها أن تخفى انفعالها ..
وسألتها :
ـ مع من تتحدثين ..؟
فقالت على الفور .. وكأنها رتبت الجواب من قبل :
ـ حسن ابن الجيران .. عاوز الوابور ..
       ولم يكن هذا صوت حسن .. وكنت أعرف أنها كاذبة .. وصمت ولم أقل شيئا ..
       وتكرر هذا الحادث مرتين بعد ذلك فى فترات متقاربة .. وفى بكرة الصباح سمعتها تحادث الشخص نفسه بالباب بالصوت عينه ..
       وكنت أسائل نفسى .. من هو ..؟
       وشعرت بعدها بالشك ينهش قلبى .. وبهوة سحيقة تقوم بينى وبينها .. وكدت أجن وأنا أتصورها تخوننى ..
       وكنت أظل طول الليل أتقلب على مثل الجمر .. وأود لو أعمل بيدى فى عنقها وأتخلص من هذا العذاب .. وألف هذا الجسم فى أكفانه إلى الأبد ..
       وكنت أقول لنفسى .. من يرى هذا الجسم ولا يرتكب جريمة قتل فى سبيل أن ينعم به ساعة من الزمان ..
       ولقد غفرت وأنا أنظر إليها وهى فى سكرة النوم لجميع المحبين حماقاتهم ..
       وظللت أعيش معها .. وأنا فى جحيم من العذاب والشك .. ومرت أيام وأيام ..
***
       ورجعت مرة إلى البيت قبل ميعادى بساعة .. ورأيت وأنا صاعد إلى شقتى .. وكانت فى الدور العلوى من المنزل .. شابا يرتدى جلبابا وسترة .. هابطا من السلم .. ونازلا من درجات شقتى .. فلا أحد فوقى ولا سطوح للمنزل .. ودخلت البيت .. وأنا أتميز من الغيظ .. وكنت فى حالة هياج مرعب ..
       وظللت ساعة كاملة وأنا لا أحادثها .. وكان وجهها مصفرا يحكى وجوه الموتى ..
       وأخيرا سألتها بصوت جاف :
       ـ من الذى كان هنا ..؟
       فنظرت إلى طويلا وبكت .. ثم قالت :
       ـ من تظنه .. عشيقى .. ؟
       ـ ولم لا ..؟
       ـ فى بيتك ..؟
       ورجعت تبكى وتنشج نشيجا مؤثرا ..
       وكنت أعرف أنها دموع التماسيح ..
       ثم رفعت وجهها وقالت :
       ـ سأحدثك عن أمر كتمته عنك .. وكنت أود أن أحدثك به من قبل .. ولكننى كنت أخافك .. كنت أنظر إلى عينيك فى ساعة غضبك وأرتعش من الخوف .. وأقول لنفسى محال أن أحدثه عما سلف .. ولو حدثته سيطردنى .. ويركلنى بالنعال .. أما الآن فقد أصبحت لا يهمنى أى شيء .. فقد عشت ما فيه الكفاية ..
       وأردفت بعد قليل :
       ـ إن هذا الشخص الذى رأيته وأنت طالع .. فراش مدرسة ..
       ـ أى مدرسة ..؟
       ـ مدرسة الفنون ..
       ومسحت دموعها بمنديلها .. واستأنفت كلامها :
       ـ وهذا الفراش يعرفنى من مدة .. وأنا كنت أذهب إلى هناك قبل أن التقى بك .. اعمل كأنموذج .. وقد قابلت هذا الفراش من مدة فى الطريق وعرف بيتك .. وكان يجئ مبكرا إلى هنا ويعرض على العودة إلى المدرسة ولكنى دائما أرفض .. وأطرده ..
       ودارت بى الأرض .. إنها كانت تعمل كأنموذج وتعرض جسمها عاريا للطلاب .. وأنا أخاف عليها هنا من ضوء الشمس ونور الصباح ..!
       وأطرقت برأسى .. وكنت أود لو أغوص فى أعماق الأرض .. وسمعتها تقول :
       ـ كيف تعيش صبية فقيرة مثلى لا أهل لها .. لو لم أعمل هذا ..!
       كنت أعطى فى كل مرة خمسين قرشا .. ثم أعطونى أخيرا جنيها .. وبهذا المبلغ كنت آكل وأعيش .. إنك لا تعرف الفقر .. ولا تعرف الجوع وهو يعض بنابه فى الأحشاء .. ولا تعرف العذاب الأسود .. لأنك لم تجرب شيئا من هذا .. فاعذرنى .. واغفر لى ..
       ومع هذا فقد ظللت فى مكانى مدة طويلة لا أتحرك .. ولا أرفع وجهى عن الأرض .. كنت كمن ضرب ضربة قاتلة .. كنت أغفر لها كل عمل إلا هذا .. إن مجرد التفكير فى أنها كانت تعرض هذا الجسم للناس كان يذهب بعقلى .. وكنت أعتقد أن حقى عليها أكثر من حق الزوج .. وحق الأب .. وحق الأخ .. وحق كل إنسان فى الحياة .. وقد يكون هذا هو الجنون المطبق ..
       ولكن هكذا كنت معها ..
***
جمعت ملابسها وقالت لى بصوت خافت :
       ـ اننى ذاهبة ..
       فقلت لها وأنا مطرق برأسى :
    ـ ابقى إلى المساء .. وكنت لا أحب أن تخرج فى وضح النهار ..
       وفى المساء فتحت الباب فى هدوء ونزلت ..
       وكنت استمع لخطواتها على السلم .. وكأنها مطارق الحديد تعمل فى رأسى ..
ـــــــــــــــــــــــ  
نشرت القصة فى صحيفة السوادى بالعدد 73 بتاريخ 16/2/1948 وأعيد نشرها فى كتاب " العربة الأخيرة " سنة 1948
ـــــــــــــــــــــــــ   



الملهمـة

     كان إبراهيم عبد المجيد يكتب القصة القصيرة فى المجلات والصحف منذ سنوات .
     وكان يصور حياة الفقراء والبؤساء ، والذين قست عليهم الحياة وشردهم المجتمع ، أبلغ تصوير .
     كان يكتب بكثرة ويعمل ليل نهار ، ومع ذلك لم يجد لما يكتبه صدى ، ولا أثرا فى نفس أحد من القراء ، كانت كتاباته تذهب مع الريح . لم يتحدث عنه ناقد ، ولم تكتب عنه صحيفة ، ولم تصله رسالة من انسان تشجعه على مواصلة جهوده . . ! !
     ومع هذا ، فإن إبراهيم لم ينقطع عن الكتابة والنشر ، ذلك أنه كان يجد سلوته الوحيدة وناصره ومشجعه على المضى فى طريقه .. من جارته الحسناء ! وكانت أرمل فى الثلاثين من عمرها ، غضة الأهاب ، ريانة العود ذات عينين سوداوين ناعستين وأنف دقيق وخد مورد وبشرة ناصعة البياض .
     كان يراها من شرفته تقلب بيدها الرخصة المجلات المصورة التى كان يكتب فيها ، وكان يراها وهى تقلب المجلة ، وتبتسم تلك الابتسامة الفاتنة ويتصور أنها تقرأ قصته ، وتبتسم لفكاهاته ، ثم يراها مرة أخرى حزينة واجمة ، فيتصور أنها تأثرت من إحـدى قصصه المحزنة ! كان يرى كلامه مطبوعا على جبينها ، وكان يفسر كل حركة تصدر منها بأنها إيحاء من قصصه !
     وكان يتصور أنها تتبع حركاته وسكناته ، فترقبه وهو خارج من المنـزل ، وتستقبله وهو عائد إلى بيته من وراء سجف النافذة . ولهذا كان يميد من الزهو ويشعر بارتياح شديد ونشاط لاحد له وكان يكتب .. ويكتب .. غير عابىء بما يحيط به من انكار وجحود ، كان يكفيه أن هذه السيدة الجميلة تقرأ له وتعجب به .
     كان يكفيه هذا ، وكان يكتب لها وحدها ، وكان يشعر بها تغمر جوانب نفسه بنور قوى ، كانت تدفعه إلى العمل والجهاد وإن لم يتحدث إليها قط ، كان يكتفى منها بهذه الابتسامة المشرقة من بعيد .
     ومضت الأيام وهو يواصل عمله بنشاط ، وصورة جارته الحسناء لاتبرح مخيلته أبدا .
     وفى ليلة من الليالى كان جالسا إلى مكتبه يكتب كعادته ، فسمع جرس الباب الخارجى يدق ، فنهض وتوجه إلى الباب ، فألفى خادم جارته الحسناء فسر لهذا جدا ، واستقبل الخادم مرحبا !
     وقال له الخادم :
     ـ تسمح بقلم حبر ...
     وطار من الفرح ، فقد حسب أن السيدة تطلب القلم لتكتب له رسالة تشجيع !
     وأسرع إلى مكتبه ، وعاد بالقلم ، وقبل أن يعطيه للخادم ، سأله فى لهفة :
     ـ لمن .. لسيدتك ؟
     ـ لا .. لسيدى الصغير .. ستى لاتعرف القراءة ! !
     وسقط القلم من يد القصصى النابغ ، من هول الصدمة ولم يكتب بعدها حرفا .. !
=================================    
نشرت القصة بالمجموعة القصصية " العربة الأخيرة " سنة 1948  لمحمود البدوى
=================================






روح الفنان


ـ لمن أجرت الشقة ..؟
ـ لشاب من القاهرة ..
ـ شاب ..؟
ـ أجل .. وشاب أعزب ..
ـ ومعه أسرته .. ؟
ـ لا .. إنه قادم وحده .. ليس معه أحد إطلاقا ..
ـ وحده .. ؟ وفى هذه الشقة الكبيرة ..؟
ـ هذا ما عرفته من زوجى ..
ولم تسترسل آمال طويلا مع صاحبة البيت .. بل تركتها ، واندفعت إلى شقتها تبحث عن أختها الكبرى هدى ، لتقص عليها ما سمعت من فاطمة هانم ، وعرفت هدى ما دار بين أختها وصاحبة البيت من حديث عن الساكن الجديد ، الذى أجر الشقة التى تحتهم مدة الصيف ، وأخذت تكون فى رأسها صورة عنه . إنه لا شك يملك سيارة فاخرة أحسن من سيارتهم ، ولابد أن يكون حسن الملبس ، رائع المظهر ، قوياً وسيما ، ولابد أنه يدخن السيجار ..! وسيجىء ومعه الطباخ والسفرجى والخادم الخاص ... وربما خادمة ... ولا بد أن تكون الخادمة جميلة للغاية ، ولا بد أن ..
 واغتاظت هدى من هذه الخادمة ..! ومن هذا الشاب الوسيم أيضاً ..
وسألت أختها :
ـ أعرفت متى سيأتى ..؟
ـ غداً فى قطار الظهر..
ـ ليس فى السيارة ..؟ 
ـ قد تجىء السيارة بعد ذلك ..
وكفت هدى عن السؤال ، وتصورت فتى أحلامها خارجا من القطار الفاخر ، فى إحدى عربات الدرجة الأولى . والشيالون يتزاحمون على حمل حقائبة ، والفتيات فى المحطة ينظرن إليه فى إعجاب حتى يركب السيارة إلى البيت ..
وظلت هدى وأختها تحلمان بهذا الشاب ، وتكثران من التحدث عنه مدة طويلة من الليل .. ونامتا غراراً . ولما أصبح الصباح .. وقفتا فى الشرفة تنتظرانه..
 وكلما وقفت سيارة تحت البيت أخذتا ترقبان من ينزل من السيارة ومعه حقائب السفر .. وجاء الظهر ، ومر ميعاد القطار ، ولم يأت أحد بالصورة التى فى خيالهما .. وأخيراً أبصرتا بشاب يحمل حقيبته فى يده ، ويمشى فى الطريق على مهل ، وهو يقرأ أرقام البيوت كأنه محصل فى شركة النور ..!
ووقف تحت البيت ورمقه بنظرة فاحصة ثم دخل ، ونظرت الفتاتان إليه فى ذهول .. أيكون هو ..!! ذلك الرجل النحيل المشعث الشعر ، الذى يرتدى حلة قديمة باهتة ، ويجىء ماشياً على رجليه ، حاملا حقيبته فى هذا الجو الشديد الحرارة .. لا سيارة ولا خدم .. ولا شىء من آثار النعمة .. اذلك الأفاق هو الذى ظلتا تحلمان به الليل بطوله وانسحبتا من الشرفة ، بعد أن تبادلتا نظرات لها معناها ، وجلستا فى الصالة فى انتظار ساعة الغداء ..
***
وفى الأصيل أبصرتا به خارجا من البيت ، وكان يرتدى نفس البذلة .. وشعره لا يزال مشعثاً ، وهو ينحنى فى مشيته إلى الأمام .. ويمشى على مهل .. كأنه يعرج ووجهه طويل ضامر .. وخط أنفه مستقيم ، وكتفاه ضيقتان .. وظهره مقوس .. ومشى أمامهما فى طريق البحر وعيناه إلى السماء..! إنه لا ينظر إلى الناس أبداً ، لم يرفع بصره إليهما قط كما يفعل غيره من الشبان .. وغاب عنهما فى زحمة الناس ..
ولما نزلت الفتاتان مع أسرتهما للنزهة فى ساعة الغروب ، رأتاه جالسا على مقهى صغير فى الإبراهيمية وأمامه كومة من الأوراق .. هو شاخص ببصره إلى البحر .. ونظرتا إليه وكان غافلا عنهما سابحا بعينيه فى البحر ..
 وغاظهما ذلك جداً ..
ومع أنهما كانتا تنظران إليه فى استخفاف وازدراء . والصورة الخيالية الرائعة التى كونتاها عنه ، انمحت بعد أن وقع نظرهما عليه ، وظهرت هذه الحقيقة البشعة ، ولكن حب الاستطلاع حملها على معرفة كل شىء عنه ..!
ولما سألت آمال صاحبة البيت عن هذا الشاب ، وقالت لها : إنها لا تعرف عنه أكثر من أنه من القاهرة وأجر الشقة بواسطة صديق لزوجها .. ازدادت رغبة فى أن تعرف أكثر من ذلك .. أما أختها الكبرى فقد هزت كتفيها إستخفافا ، وابعدته عن دائرة خيالها ..
وكانت آمال تراه كل صباح ومساء يخرج وحيداً .. ويعود وحيداً ، ولا أحد يقوم على خدمته ... وكانت تسأل نفسها كيف يعيش ..؟ ومن ينظف له الشقة ، إنها لم تر البواب أو أى خادم فى البيت يدخل شقته قط .. فكيف يعيش هذا الرجل ..؟ كانت تراه ينزل إلى البحر قبل الغروب ، ويجلس بعيداً عن المصيفين فى ركن قصى ، وبيده كتاب . وكانت عيناه بين البحر والكتاب .. لم يكن ينظر إلى النساء العاريات كما يفعل الشبان .. إنه مستغرق فى عالم آخر .. عالم كونه بنفسه لنفسه ..
كانت آمال تنظر إليه فى عجب .. ولفت نظرها إليه شذوذه وبروده العجيبان ، وبعده المطلق عن الناس ، وكانت تود أن تعرف ما يقرأ .. كانت تود أن تعرف ما يشغله عن الناس .. وكانت تروح وتجىء أمامه .. وتنظر إلى الكتاب .. إنه ديوان من الشعر ، وجلست على قيد خطوات منه ، وهى ترمق الكتاب ، إنها تود أن تعرف هذا الشاعر الذى يشغله عن الناس ، وقرأت العنوان وكان مكتوبا بخط كبير .. إنه ديوان ابن الرومى وفى المساء كانت مع أختها فى مكاتب الإسكندرية .. سألت عن الديوان فى مكتبة المعارف ، ومكتبة الآداب ، فلم تجده وغاظها ذلك .. وكانت أختها هدى تعجب ، لماذا تسأل أْختها عن هذا الديوان ، وهى لا تقرأ الشعر ، ولا تفهم الشعر .. وأخيراً وجدت آمال الديوان فى مكتبة صغيرة .. وفتحته عرضاً وقرأت :
أعانقها والنفس بعد مشوقة إليها وألثم فاها ...
من التى يعانقها ويلثم فاها .. ! ووضعت الديوان جانباً .. ومضت إلى الشرفة ، وكان البحر يهدر ، والناس يقلون فى الطريق .. وأسرتها تعد مائدة العشاء .. ولكنها لم تكن تحس بجوع ، ولم تكن تود أن تجلس معهم . كما كانت تفعل كل يوم .. إنها تحب أن تجلس هنا وحيدة ..
ما الذى جرى لها ..؟
ولما جلسوا للعشاء .. اعتذرت بألم فى رأسها .. وبقيت فى الشرفة وسمعت النافذة التى تحتها تفتح .. وظهر النور فى عرض الطريق . إنه هو .. لقد عاد من الخارج .. وسمعت حركة فى الشرفة التى تحتها .. ولوت عنقها ونظرت .. إنه جالس على كرسى طويل ، وعيناه إلى البحر ، إنه لا ينظر إلى فوق أبداً .. إنه لا يقرأ الآن .. ولكنه يسبح فى عالم الشعر ويتأمل ؛ إنه شاعر.. ولهذا يعيش وحيداً ، ولهذا يعيش فريداً ، وبعد العشاء جاءت أختها وجلست معها ، ولأول مرة تشعر بأن أختها ضايقتها ، ولم تعرف لذلك سببا ً..
***
واستمر عبد المجيد على حاله لا يعير باله لأحد من سكان المنزل ، ولا يلتفت إلى الفتاتين اللتين كانتا تراقبانه فى غدوه ورواحه ، وفى حركاته وسكناته فى البيت ، وكانت هدى على الرغم من انصرافها عنه تعجب لشذوذه وغرابة أطواره .. أما آمال فكان يغيظها منه أنه لا يحس بوجودها معه فى منزل واحد ، وهى لم تشعر نحوه بأى عاطفة ما ، فليس فيه ما يحب .. وكل الشبان الذين تراهم حولها ، وفى البيت ، أحلى منه شكلا ، وآنق ثوبا ، وأكثر قوة ..
ولكن صورته مع هذا ... كانت لا تبارح خيالها أبداً .. وفى مرة من المرات كانت نازلة من البيت ومعها أختها ، وكان هو واقفاً على بابه يتهيأ للخروج . فلما رآهما دخل وأغلق الباب .. وقد غاظهما ذلك جداً ..
 وجعلت آمال تلعنه فى سرها ، هذا الصعلوك الأفاق .. يفعل هذا ‍..!
وضحكت هدى حتى احمر أنفها ..
وقالت وهى تميل على أختها :
ـ إنه خجول كالعذراء .. يا آمال خجول .. هذا الأفاق خجول ..
ـ إنك مخطئة .. إنه يحتقرنا .. إن أنفه دائماً فى السماء ..
ونزلتا إلى البحر ، وأختلطتا بالمستحمين من فتيان وفتيات ، وكان النهار رائعاً ، والبحر هادئاً كالحصير ..
***
بعد ايام قليلة من هذه الجفوة التى بدرت منه على السلم ، لاحظت آمال أنه لم يبرح المنزل .. لم ينزل إلى البحر ولم يتريض ، حتى غرفته المطلة على الطريق لم يفتح نافذتها .. ولم تره جالساً يطالع كما أعتادت أن تراه كل ليلة ، وهى عائدة مع أسرتها من الخارج .. أسافر .. ؟ أبداً ..! إن النور مضاء كالعادة فى الصالة ، وفى بعض حجرات البيت .. كيف يعيش هذه الأيام كلها من غير طعام .. ؟ إنها لم تر البواب ، أو أحد الخدم يحمل له شئياً من الخارج .. قد يكون مريضاً هذا المسكين .. ولا أحد يعوله ، ولا أحد يمرضه .. وتصورته وقد زاد نحولا ..!
وفى صباح يوم رأته يخرج من البيت ، وكان شاحب الوجه تبدو عليه آثار المرض الشديد .. ومشى متمهلا حتى رأته يجلس على مقهى قريب فى دائرة الشمس .. وكان قد اعتمد برأسه على كفه وأطرق ، وظلت تتأمله من بعيد ، وفى نفسها شتى الانفعالات ..
أحست نحوه بالعطف على حاله .. إنسان وحيد يمرض فى بلد غريب ، ولا يجد أخا ولا أختا ولا أما تسهر عليه ، إنه مسكين .. لابد أن تفعل له شيئاً ..
بعد ساعة رأته ينهض ، ويتحامل على نفسه حتى دخل البيت .. إنه مريض .. ومريض جداً ..
وأخذت تروح وتجىء فى الشرفة .. أترسل إليه الخادمة ..؟ ما الذى تفعله لهذا المسكين .. ووجدت نفسها تهبط الدرج ، وتنقر بيد مرتعشة على بابه ، وفتح الباب ، ونظر إليها بعينين منطفئتين ..
وكانت تنظر إليه فى إستحياء ..
وقالت أخيراً بصوت خافت :
ـ جئت أسألك إن كنت تحتاج لشىء ، فقد لاحظنا أنك مريض ... ولم تبرح منزلك منذ أيام . .
ورفع وجهه إليها فى سكون ، وقد عاد إلى عينيه بعض البريق :
ـ أشكرك .. إن هذا كرم منك ..
ـ إننى لم أفعل شيئاً حتى الآن ..
ثم حملت إليه كوباً من الليمون عصرته بيدها .. وهبطت به السلم ، وقد شعرت لأول مرة فى حياتها بشىء لذيذ هز كيانها ، وجعلها أكثر حيويةوأكثر نشاطاً ، شعرت بأنها تفعل شيئاً عظيماً ..
وتناول منها الكوب ، وقال لها ، وهو يبتسم ابتسامة خفيفة وعيناه الصافيتان تنظران إليها فى سكون ودعة :
ـ أنا لا أستطيع أن أرفض هذا من يدك ..
وتمتمت بشىء ، وصعدت الدرج بسرعة وقلبها ينتفض ..
وفى الغداء أرسلت إليه حساء ساخناً وخبزاً ناشفاً ، فقبلهما ، وبعد أن تناول الطعام نام قليلاً ، ووجد أن روحه القوية وإرادته الجبارة تعملان فى داخل نفسه ، واستكثر أن يظل هكذا طريح الفراش ، وفتاة من أسرة أرستقراطية تمرضه وترسل إليه طعامها . وطرح فكرة المرض عن نفسه .. وخرج يتمشى قليلا ، ثم ركب الترام إلى المدينة وابتاع لها كتاباً لأديبة مصرية ، وأرسله إليها مع خادمتها رداً على صنيعها عنده .. وأحس بعد هذا بالارتياح الشديد ، وأزاح صورتها عن ذهنه ..
وفى اليوم التالى لم يعد يفكر فيها إطلاقاً ..
***
وجلس فى مساء يوم فى الشرفة يطالع ، وكان يرفع بصره من حين إلى حين إلى البحر ، ويرتد به إلى المارين تحته فى الطريق ، ورفع بصره مرة فرأى آمال مطلة عليه من النافذة ، وظلت تنظر إليه مبتسمة ، ووجهها يفيض إيناساً وبشراً ..
وأخيراً حركت شفتيها :
ـ كيف حالك اليوم ..؟
ـ أحمد اللّه وأشكرك ..
ـ إننى لم أفعل شيئاً ..
ـ بل فعلت كل شىء ..
ـ أبداً .. أشكرك على هديتك ..
ـ أقرأت الكتاب ..؟
ـ أجل .. ساعة ما أرسلته ‍..
ـ وأعجبك ..؟
ـ للغاية ..
وسمعت آمال من يناديها .. فحيته بإيماءة من رأسها وأنصرفت .. وعاد يقرأ ويسائل نفسه .. أيحب هذه الفتاة .. أبداً .. إنها من أسرة أرستقراطية ناعمة تتكلم الفرنسية .. وتعيش فى جو خانق من التكلف وهو رجل فقير وفنان طليق .. شتان ما بين تفكيره وتفكيرهم ‍..!
أما آمال فقد كانت على توالى الأيام تزداد وجداً به وتعلقاً . وقد وجدته رجلا يغاير غيره من الرجال .. فهى لم تره عند ما ينزل إلى البحر ، يحاول التحدث مع الفتيات كما يفعل غيره من الشبان الذين هم فى سنه .. كما أنها لم تره جالساً فى المقهى مع غيره يصخب أو يلعب النرد أو يحتسى الخمر .. إنه يعيش فى عالم خلقه لنفسه ..
وقد أعجبتها طريقته الهادئة فى الحياة ، وهو وإن لم يكن جميل الشكل ولا أخاذ المظهر ، لكن روحه هى أجمل شىء فيه ، وهى التى تأسرها ، وتأخذ بمجامع فؤادها ، وصوته دائما ينفذ إلى أعماقها ، وتحس وقعة الحلو فى نفسها .. وحديثه ليس معاداً ولا مبتذلا .. إنه لا يردد كلمات الآخرين كالببغاء الحمقاء .. وحتى عندما يصمت يكون أشد أسراً ، وأعظم فتنة ..!
تعبث يداه الناصعتا البياض بالكتاب ، وتتركز عيناه السوداوان فى عينيها .. فتحس برجفة .. وتحس بهما تقرآن سرها .. فتغض من طرفها .. وتحول وجهها عنه .. ولكنه يظل مع ذلك ينظر إليها ، وكأنه يسر لأنها ترتجف .. وكأنه يسر لأنها تحس بقوة روحه الجارفة تطغى عليها ..
وتأخر ذات ليلة فى الخارج ، ولما عاد للبيت وفتح حجرة نومه وخرج إلى الشرفة ، وجد آمال تطل عليه من النافذة .. ولعلها كانت تنتظر عودته .. وإنها الوحيدة الساهرة فى بيتها .. ونظر إليها فى عجب :
 لماذا تهتم به هذه الفتاة لماذا ..؟
وقال لها بصوت خافت :
ـ لماذا أنت ساهرة ..؟
ـ إن منظر البحر الليلة جميل .. وأنا ألقى عليه النظرات الأخيرة لأننا راحلون بعد غد ..
ـ حقا .. ؟
ـ ولماذا تسأل .. ولماذا تهتم ..؟
ـ أريد أن أتأكد لأستريح من هذه الجلبة التى فوقى ..!
ـ أنضايقك ..؟
ـ طبعاً .. فما أكثر خدمكم .. وما أكثر أطفالكم .. إننى لا أنام إلا فى الساعات الأخيرة من الصباح ..!
ـ آسفة لك ..
ـ ماذا يجدى الأسف ..؟
ـ أتود أن تعرف الحقيقة ..؟
ـ أجل ..
ـ إنهم راحلون جميعاً .. وسأبقى وحدى .. سأبقى وحدى لأجرب حياة العزلة مثلك ..!
ـ إنك لا تستطيعين أن تمكثى فى البيت وحدك ساعة واحدة ..
ـ ولماذا تستطيع أنت ..؟
ـ لقد تعودت ذلك .. ثم أنا لا أعيش وحدى بل تؤنسنى دائما أطياف أحبها ..
ـ خيالات الشعراء .. ؟
ـ سميها ما شئت ..
ـ ومتى تزورك هذه الأطياف ..؟
ـ كلما كنت وحدى ! ..
ـ سأتركك إذن لترى هذه الأطياف التى تحبها ..
ودخلت آمال ، وسمع النافذة تغلق ، وظل هو فى مكانه مرسلا بصره إلى البحر ، وفى رأسه تطوف أحلام لذيذة ، وكان السكون العميق ، والظلام المحيط به ، ومنظر البحر فى الليل وهو يصفق بأمواجه ويرقص .. قد جعله ينسى نفسه ، ويبقى فى مكانه طويلا .. ثم أحس بالبرد فنهض ، وأغلق باب الشرفة ، وذهب إلى فراشه ..
***
وفى مساء اليوم التالى سمع جرس الباب يدق ، ولما فتح الباب وجد آمال واقفة أمامه ولابسة ثوباً أزرق آية فى الذوق والأناقة .. وبيدها كتاب .. وأبتدرته بقولها :
ـ لقد جئت لك بهذا كتذ كار ..
ـ ما هو ..؟
ـ ديوان من الشعر .. !
فانتفض سروراً ومد يده نحوها ، وتناول منها الكتاب وهو يبتسم .. ونظر إليها فى سكون وقوة ... وظلت واقفة أمامه ساهمة .. فتناول يدها ، وكانت لينة حارة فى يده الخشنة .. ونظر فى أعماق عينيها وهمس :
ـ لا أدرى كيف أشكرك ..
ووجدها تتقدم نحوه وتكاد تلتصق به ، فشدها إليه ، وأغلق الباب برجله ، وضمها إلى صدره ضمة قوية ..
***
وفى صباح يوم السفر .. أدعت آمال المرض .. وبعد نزاع طويل بين الرجال والسيدات فى الأسرة ..! تغلبت السيدات أخيراً وأجلت الأسرة سفرها إلى الشهر التالى ..!
=========================================
نشرت القصة فى مجلة دنيا الفن بتاريخ 20/1/1948 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " العربة الأخيرة " سنة 1948
==========================================

حـارس القـرية


     عرفت الشيخ عبد المطلب وأنا صبى العب فى الأجران .. فقد كان حارس أجران القرية .. وأحب الناس إلى قلوب أبنائها .. وإلى قلوب الصغار منا على الأخص .
     ولم يكن الشيخ عبد المطلب حارس أجران القرية وحدها بل كان حارس القرية كلها فى الواقع .
     كانت الأجران تقع فى شرق القرية وتكون دائرة واسعة فى " العرصة " وكان بجوارها جسر القرية الوحيد .. ومنه يدخل الناس إلى القرية ويخرجون منها .. وكان " خص " الشيخ عبد المطلب فى قلب الأجران .. وكان يشرف على الأجران والجسر معا .
     وقد كان الرجل واسع الحلم طيب القلب .. فقد كان يتركنا على هوانا نمرح ونلعب فى " العرصة " ونصعد الأجران العالية وننحدر منها .. ونجرى كقطار الصعيد ونصيح ونعوى كالذئاب ..! وهو منصرف إلى عبادته .. لايرفع رأسه عن كتاب الله ، ولايسمعنا كلمة نابية .. بل كان ينظر إلينا ويبتسم فى عطف ورقة بالغين .
     ثم شببت عن الطوق ، وتركت القرية لأتعلم فى المدينة .. وفى عطلة الدراسة الصيفية كنت أعود إلى القرية ، لأعمل مع إخوتى فى الحقول .
     انقطعت عن اللعب فى الأجران ، ولكننى كنت أرى " خص " الشيخ عبد المطلب كل صباح ومساء قائما وسط البرية كأنه منارة تهدى السفن فى ظلام الليل .
     ولما كنت أحب القراءة .. وكان الشيخ عبد المطلب هو القروى الوحيد الذى أجد عنده مجموعة نادرة من كتب التاريخ والسيرة فقد كنت أذهب إليه لآخذ منه بعض الكتب .. وكنت أنتقى منها كتب السيرة على الأخص فقد كانت تأخذ بلبى .
     وكنت أنتهز فرصة الصيف عندما ننتهى من حصد القمح فأجد متسعا من الوقت للقراءة فى هذا الفراغ الكبير من السنة فلم نكن نزرع القطن فى تلك المنطقة من الصعيد ، ولهذا كنا نمضى الكثير من أيام الصيف فى فراغ ممل ..
     ثم زحفت آلات الرى الحديثة إلى هذه المنطقة وتغير الحال ، وأصبح الفلاحون يزرعون القطن والأذرة ويعملون طول السنة .
     وقد كانت أحب الساعات إلى نفسى هى التى أفرغ فيها من العمل ، وأجلس فى " خص " الشيخ عبد المطلب لأطالع وأتحدث معه ..
     كان قليل الكلام ، كثير التعبد ، نقيا ، تقيا .. وكان يحرس الأجران كلها وحده ويلعب حوله الأطفال من اصفرار الشمس إلى ما بعد الغروب .. ثم يتركونه إلى بيوتهم ..     
     ويظل الرجل فى مكانه من الخص ساهرا إلى الصباح .
     ولم يكن مسلحا ، ولا يخيف أحدا بهراوة أو عصا .. بل كان كل ما يملكه قلبه الكبير ، وروحانيته الجارفة التى يواجه بها الليل وحده فى تلك المنطقة المرعبة من الصعيد .
     وكنت أراه وحده وأنا سائر على الجسر ، وعينه إلى الشرق .. لايعبأ مما يجرى حوله ولا يخاف ولايرهب أحدا .. فأدرك عظمة الإيمان فى النفوس وأدرك سر قوته .
     وكنت إذا شعرت بالعطش وأنا عائد من الحقل أنزل عن الجسر ، وأتجه إلى " العرصة " لأشرب من " زير " الشيخ عبد المطلب . . وكان قائما بجوار الخص .
      فإذا شربت وأحس بى .. أشار إلىّ بسبابته يدعونى إليه فأعرف أنه يتعبد ، وأقترب منه فى سكون ، وأجلس بجواره على القـش .. وأرقـب شفتيـه وهمـا تتمتمان فى صوت خافت ..
      وأرى وجهه المشرق فى الظلام وهالة النور على غرته .. وخطوط الزمن على جبينه .. والبريق الساطع فى عينيه .. ولحيته الكثة تدور على عارضيه ، وتقى وجهه وهج الشمس ، ولفح الرمضاء .
     فإذا فرغ من عبادته سألنى عما عملته فى الحقل .. ثم عاد إلى صمته وتأمله .
     وكانت الكلاب تنبح فى الحقول وفى القرية .. والرصاص يدوى فى أذن الليل .. وكنت وأنا جالس معه أرى أشباحا سوداء تتحرك بعيدا .. بعيدا على شط النيل .. فأرقبها بعين ساهرة . أما الشيخ عبد المطلب فما كان يحفل بشىء من هذا كله .. كان يرسل بصره إلى أقصى الأجران ثم يرتد به .. ويعود إلى سكونه وصمته .
     وكنت أنظر إلى عينيه الساكنتين .. وجبينه الوضاء ، ونظرته الشاردة إلى السماء .. وأتأمل وأفكر .. ان هذا الرجل قد نفض يده من نعيم الحياة وملذاتها .. وعاش فى عالم كونه بنفسه لنفسه .. ولقد فهم سر الحياة وعرف معنى السعادة ، ولقد استخلص من الحياة زبدتها .. ووصل إلى أعمق أسرارها ولقد مرت عليه وهو جالس فى مكانه من الخص ألوان مختلفة من الحياة والناس .. وهو باق على حاله لم يتغير ..
     لقد ذهب من هذه القرية أناس إلى المدينة ، وعاشوا فيها يقامرون ، يشربون ويصخبون فى المواخير وسقط منهم من سقط فى الأوحال .. وذهب منهم من ذهب إلى غير رجعه وعاد منهم من عاد يرتدى القبعة ويدخن فى الغليون بعد أن عبر البحار !
     ولكن الشيخ عبد المطلب باق على حاله لم يغير جبته ، ولم يغير مكانه من الخص .. ولم يتغير له طعام ولاشراب منذ نصف قرن من الزمان .. إنه الصورة الخالدة للفلاح المصرى الجبار الذى صارع القرون ، وكافح الاستبداد والظلم والجبروت مدى قرون وقرون من الزمان .. ذاق مرارة الحرمان فى كل عصور التاريخ حتى فى عصر النور .. ومع هذا فإن جبهة الشيخ عبد المطلب لم تتعفر بالتراب قط وما حنى رأسه لمخلوق !!
     وكان على مدى البصر منه تتلألأ مدينة أسيوط بأنوارها الساطعة .. ويسطع نور " الخزان " من بعيد .. كانت المدنية تزحف هناك حيث العلم والثراء العريض .. وحيث الكهرباء والسيارات الفخمة والقصور الشامخة وتقف هنا حيث الظلام والفقر والجهالة المطبقة والأكواخ الحقيرة .
     كان الظلام الكثيف يخيم .. وكانت أشجار النخيل تحتضن بيوت القرية وتطوقها من الشرق والغرب بسياج طويل من جذوعها .. وكانت الترعة تشق القرية نصفين .. وكان هذا الخط الأبيض من الماء يزحف بين البساتين كما يزحف الثعبان فى الظلام .. وكان الجسر يجاور الترعة ويكون حاجزا منيعا وقت الفيضان وعلى هذا الجسر قام خط المدنية الأول الزاحف إلى هذه القرية الصغيرة .. عمود التليفون الخارج من المركز إلى بيت العمدة .. وهو البيت الأبيض الوحيد فى القرية .
     وكانت القرية جمعاء تغط فى سبات عميق .. ويظل الشيخ عبد المطلب وحده ساهرا فى الخص يحرس الأجران ، ويحرس القرية جمعاء .. فما من أحد يستطيع أن يسير على الجسر ، وهو منفذ القرية الوحيد ، دون أن يبصره الشيخ عبد المطلب .. وعندما يشعشع النور ، ويفرغ من صلاته ويفرش زكيبة .. ينام إلى الضحى .. غافلا عن كل ما حوله وتاركا كل شىء لله .
     وكنت أجلس فى ظل الخص ساعة الأصيل .. وأرى عن قرب هؤلاء الفلاحين المساكين ، وهم شبه عراة حفاة يعزقون الأرض ويسقون الزرع وقد التصقوا بالأرض ومالهم عنها من فكاك ..
      كانوا يعملون من مطلع الشمس إلى الغروب وأجسامهم تنضح عرقا ، وأرجلهم تغوص فى الوحل .. وما يطمع الواحد منهم بعد هذا الجهد كله فى أكثر من رغيف من الخبز الأسود وقطعة من الجبن .
      ولقد خالطت هؤلاء الناس وعاشرتهم ، وحملت معهم الفأس فى قلب الحقول .. وما وجدت فيهم شاكيا ولا متبرما .. إنهم يعملون فى صبر عجيب ، وقد نفضوا أيديهم من كل رحمة تأتيهم من الأرض ، أو من السماء .. وهم يعيشون فى حذر وتوجس وريبة ، ولا يثقون بإنسان .. ويتصورون أن الكل يعمل على تحطيمهم ..
     ويظل الفلاح ناصبا قامته للشمس حتى يسقط من الاعياء والجوع .. وهنا يطلب الرحمة من الموتى بعد أن يئس من الأحياء .. فيفزع إلى الأضرحة وقباب أولياء الله الصالحين .
     وكانت مرساة القرية على مسافة قليلة من " العرصة " وفيها رست بعض المراكب .. وكنت وأنا جالس فى الخص ساعة الظهيرة أستمع إلى طرقات العمال الرتيبة فى هذه المراكب .. كانوا يصلحونها قبل الفيضان .. وكانوا يعملون فى جهد متواصل .. كان كل من حولى يعمل ويدور كالطاحون .. وكنت الوحيد بالقياس إلى الآخرين الذى يجد عنده وقتا للتنفس والتأمل .
     وكنت أتمنى لو أعطانى الله بعض هذه القوة الجبارة ، لأحمل هذه الكتل العريضة من الخشب من اليابسة إلى الماء ، كما يفعل هؤلاء الملاحون .
     كنت أجد أنا والشيخ عبد المطلب أنيسا فى عملهم المتواصل ومطارقهم التى لاتنتهى من الصباح إلى المساء .. كانوا يغنون طول النهار فإذا هبط المساء انحدروا إلى النيل وغسلوا ما علق بهم من زيت ونفط .. ثم لبسوا ثيابا زاهية ، وصعدوا فى الطريق إلى القرية .. فإذا اقتربوا منا حيونا فى بشر ومرح .. لاشك أنهم سعداء .
     كان السكون الثقيل الشامل يخيم بعد ذلك .. وكنا نرى قلوع هذه المراكب تلمع من حين إلى حين فى جوف الليل الحالك .
***  
     وفى ليلة من الليالى خرجت من القرية قاصدا المزرعة .. فقد كنا نسقى حقل ذرة لنا ، وكان علىّ أن أسهر مع الفلاحين إلى الصباح حتى نفرغ من الحقل كله .. ومررت فى الطريق على الشيخ عبد المطلب لأشرب معه القهوة وأصلى العشاء .. إلى أن يطلع القمر .. فلم يكن من السهل على شاب مثلى أن يسير وحده فى الظلام ساعة زمانية حتى يبلغ المزرعة .
     جلست بجوار الشيخ أمام الخص .. وكان الظلام دامسا .. والكلاب تنبح ، وفروع النخيل تتمايل .. والضفادع تنقنق هناك على شط النيل .
     ولمحت شبحا يسير على الجسر ، وكان يمشى على مهل ، ولم يكن أكثر من سواد يتحرك فى جوف سواد .. ولما أصبح فى محاذاتنا انحدر عن الجسر ، ومضى فى طريق الأجران حتى اقترب من موضع الماء ، فوقف هناك هنيهة وهو يلهث كالمتوجس من شىء .. ثم دفع " الكوز " فى جوف " الزير " وسمع له صوت مصلصل فى هذا السكون الثقيل الشامل ، ورفع الإناء إلى شفتيه وشرب .. وتنفس .. ودار على عقبيه وتقدم من حيث أتى فى الطريق صعدا ..
     وهنا صحت :
     ـ من هناك ..؟
     فتوقف عن السير ، وحول وجهه إلينا وظل صامتا برهة
     ـ نعمان ..
     قال هذا واتجه نحونا .. وكان الشيخ يفرك بعض حبات القمح بين يديه ، فلما اقترب منه نعمان ، أشار إليه ليجلس فجلس أمامه .
      وكان نعمان يرتدى جلبابا أسمر ، وعلى رأسه لبدة من الصوف الأسمر كذلك ، وفى يده بندقية من أحسن طراز .. وكان شابا قوى الجسم فارع الطول حديد البصر قوى القلب ، وكان من رجال الليل فى هذه المنطقة ومن فتاكها ، وكان اسمه يتردد بعد كل حادث قتل أو سطو يقع فى هذا الإقليم ، ومع كل ما كان عليه هذا الرجل من شر وجبروت فإنه جلس أمام الشيخ عبد المطلب ، خاشعا منكس الرأس .
     ونظر إليه الشيخ وسأله :
     ـ إلى أين يا نعمان ..؟
     ـ إلى حيث تسوقنى الأقدار .. يا عمى الشيخ ..
     وخيم صمت ثقيل علينا ثلاثتنا .. وكان الشيخ يحدق فى وجه نعمان وينظر إلىّ .. ويقرأ أفكارنا ، ولكنه لايقول شيئا ، ونظرت إلى نعمان ، وعدت أتذكر أيام صباى فى القرية .. أيام كنت أصطاد السمك ، وأتسلق النخيل ، وأركب الجمال فى البرارى ، وكان رفيقى فى ذلك كله نعمان هذا بلحمه ودمه ، ولقد كان فى صباه رقيقا وادعا كالحمل ، ولكنه الآن أصبح رجلا آخر .
     كان فى صباه يصطاد العصافير ، أما اليوم فهو يصطاد الرجال ، ومن الذى فعل به هذا ؟ أطرقت وفكرت ..
      إن نعمان سرق فى صباه ليأكل .. وهو الآن يسرق للسرقة فى ذاتها ، انها لذته الكبرى ، وهو يغشى المدينة ويذهب إلى مراقصها ويرمى بكل ما معه من نقود تحت أقدام الراقصات .. ويشرب .. ويلعن شياطين الأرض .. وإذا مرت عليه ليلة ولم يطلق فيها رصاصة ، ولم يملأ خياشيمه برائحة البارود جن وطار صوابه !
     هذا هو نعمان الجالس معنا الآن ..
     قال لى الشيخ :
     ـ اعمل لنا قهوة يا بنى ..
     فتناولت عود ثقاب من نعمان ، وأشعلت النار فى الدريس .. وأخذت أحدق فى وجهه من خلال النار .. كان صارم النظرة قاسى الملامح .. وكان يخط بكعب بندقيته فى الأرض .
     وشربنا القهوة ، وأخذ الشيخ عبد المطلب يحدثنا حتى أذن العشاء فنهض وهو يقول :
     ـ قم يا نعمان إلى الماء فتوضأ وتعال لتصل معنا ..
     فأطرق نعمان وبقى فى مكانه .
     فأعاد الشيخ :
     ـ قم يا نعمان ..
     وكأنما كان صوته نذيرا من السماء ..
     وصليت وراء الشيخ .. وبقى نعمان فى مجلسه .. تتساقط حبات العرق البارد على وجهه .. وما رأيته مصفرا أغبر السحنة كما كان فى هذه الساعة .
     وتناول نعمان بندقيته ونهض ..
     فقلت له :
     ـ سأمشى معك حتى المزرعة ..
     فنظر إلىّ الشيخ وقال بصوت هادىء :
     ـ خليك أنت .. إلى أن يطلع القمر ..
     وأذعنت لأمره ، ومضى نعمان .. وابتلعه الظلام .. وبعد قليل سمعنا الرصاص يدمدم ..
     فقلت للشيخ :
     ـ إنه نعمان ..
     ـ أجل إنه هو ..
     ومضت فترة صمت ..
     وسألته :
     ـ أتظنه قتل ..؟
     ـ لن تراه مرة أخرى ..
     وأخذ الشيخ يتعبد .. فصمت .. وأخذت أفكر فى هذا الحادث ، وأتعجب من قوله :
" خليك أنت إلى أن يطلع القمر "
     ترى هل كان الشيخ يقرأ الغيب ..؟  
     وسهرت ذات ليلة مع الشيخ عبد المطلب إلى الهزيع الثانى من الليل .. وكان الفيضان قد بكر والنيل شديدا .. وكان أهالى البلدة يخشون على زراعة الأذرة التى فى الأراضى الواطئة من الغرق ، فأقاموا حولها جسرا قويا ..
     وكان النيل يجرى على قرب منا جياشا قويا .. والخزان يهدر فى جوف الليل .. والسكون عميقا شاملا .. حتى الكلاب فى القرية هجعت ، وكفت عن النباح ..
     وسمع الشيخ وهو جالس صوتا أشبه بصوت الماء فى السد .. فنهض ومد بصره .. ولم يستطع أن يبصر شيئا .
     ولكنه سمع خرير الماء أكثر وضوحا ..
     فجرينا مسرعين نحو السد .. ولما بلغناه رأينا الماء قد فتح فجوة فيه وانحدر منه إلى المزارع متدفقا قويا ، وذعر الشيخ .. فلو انهار السد ستغرق مزارع برمتها وهى لصغار الفلاحين المساكين .. وقد يتطور الحال وتغرق بعض منازل القرية .. 
     أسرع الشيخ وحمل حزمة من " البوص " وألقى بها فى الفجوة وفعلت مثله .. وجرفنا إليها التراب ، واحتبس الماء بعض الوقت ولكنه عاد بعد قليل إلى ما كان عليه واشتد .. ووضعنا حزما أخرى بين عروق الخشب القائمة فى السد ، وحملنا إليها أكواما من الطين ، ولكن جهودنا كلها كانت عبثا فقد كان الماء قويا ، يجرف كل شىء فى طريقه ، وكانت الفجوة تتسع بعد كل لحظة وأخرى ..
     وعرف الرجل مقدار الخطر الذى سيحل بالقرية .
     فقال لى :
     ـ أسرع إلى القرية .. وهات النجدة ..
     وجريت مسرعا .. وكنت أسمع وأنا أعدو صراخ الشيخ عبد المطلب فى جوف الليل الساكن .
***  
     ولما عدت بالرجال .. كان الماء يتدفق كالسيل .. وكان جزء من السد قد انهار ..
     ووجدت الشيخ عبد المطلب راقدا هناك دون حراك تحت عروق الخشب عند الجزء المنهار ..
     فأدركنا أنه رقد بجسمه فى الفجوة ليحبس الماء إلى أن يحضر الفلاحون .. ولكن الماء كان قويا فانهار به السد وسقط فوقه ..
     كان وجهه ساكنا .. وعلى شفتيه ابتسامة من فرغ من عمل عظيم ..
================================  
نشرت فى مجموعة العربة الأخيرة لمحمود البدوى عام 1948
================================   


السراج


       كانت ريح الشتاء تحرك أشجار النخيل الكثيفة الملاصقة للترعة .. وتصفر عاوية وهى تجتاز مزارع القصب .. وكانت أوراق الأشجار الجافة تتطاير فى الجو محملة بالغبار وكان الجو كله ينذر بالعواصف .. والأشجار الضخمة القائمة بجوار الجسر تبدو فى ظلام الليل المعتم كالأشباح المتحركة فى أرض الشياطين ..
       وكان المقهى الصغير على مفترق الطريق بين دغل من النخيل .. وحقول القصب السامقة تحت الجسر .. وبين أشجار السنط والنبق والجميز التى غاصت جذوعها فى أعماق الأرض وهزت تربتها منذ عشرات السنين ..
       وكان المقهى عبارة عن بناية من الطوب الأسود .. وسقفه من الجريد وجذوع النخيل وأرضه نصف عارية ونصف مفروشة بالحصر ولم يكن فيه كرسى واحد أو منضدة وكان الفلاحون والعابرون يجدون فيه حاجتهم من الشاي والسجاير والتمباك .. ويجتمعون بين جدرانه من الشتاء ..
       وكان سراجه يلمع فى الظلمة .. ويجد فيه العابرون فى الليل ملجأ يحميهم من أرض الشياطين .. فقد كان المقهى وسط دغل من أشجار النخيل الصغيرة الملتفة .. ووراءه مزارع القصب .. فيشعر السائر فى الليل بما يفزعه ويروعه فإذا ولج باب المقهى وسمع صوت حليمة أو رأى سراجها فى يدها ارتد إليه قلبه ..
       وكان عابرو السيارات فى الخط الشرقى إلى البدارى .. يجدون فيه قلة الماء وكوب الشاى الأسود .. وعلبة السجاير ..
       وكان صاحب المقهى شعبان قد ذهب من الصباح الباكر إلى أبو تيج وربما عاد فى الليل ..
       وجلست حليمة تصلح ذبالة السراج .. والغلام الذى معها ينفخ النار فى قطع السنط وإذا برجل يدخل من الباب وكان يرتدى بدلة رمادية .. ويضع على رأسه طربوشا وعليه سيما التعب الشديد ..
       وخفت إليه حليمة .. ترحب به .. وتشفق على شيخوخته من هذا المشوار ..
       وسألها :
-      الحلزونة .. مرت يا حليمة ..؟
-      لم تمر بعد .. يا عمى صالح .. استرح إنه ميعادها ..
- إعملى لى كوبًا من الشاى .. تعبت فى هذا النهار .. أتعبنى الفلاحون .. أصبح من طباعهم المماطلة ..
- تعال لهم .. مرة أخرى فى الأحد المقبل ..
- رايح " الغرب " .. يا حليمة ..
والتمعت عيناه فى الغبش الذى زحف على المقهى .. وأحست حليمة بالظلمة فأشعلت السراج .. وأضاء النور وجهها .. وبدت أمامها خطوط الزمن على وجه الرجل الذى جلس على الحصير ونشر أوراقه .. اخرج الفواتير وأخذ يطرح فيها ويجمع .. ويقوم بعملية حسابية شغل بها واستغرق فيها .. ومنذ أكثر من عشر سنوات وصالح أفندى يأتى إلى هذا المكان فى كل شهر مرة وينشر أمامها مثل هذه الوراق وفى كل مرة  كان يشكو من الفلاحين ويقول لها إنه لن يبيع لهم بالأجل .. وهذه هى جولته الأخيرة .. ولكنه كان لا يستطيع أن يغير طريقته بمثل السهولة التى يتصورها .. وقد يكون المشوار مع المشقة التى يلاقيها فيه .. والجهد والعرق ومماطلة الفلاحين .. هذه الأشياء كلها هى جزء من عمله ومن تجارته ..
وما الذى يمكن أن يعمله مع الفلاحين وهذه هى طريقتهم فى الحياة .. وهى نفسها لا تستطيع أن تتعامل معهم إلا بالأجل .. ولو فكرت أن تبيع لهم التمباك وعلب السجائر بالنقد .. ما باعت لهم شيئًا ..
وطوى دفاتره .. وعادت عينه .. تنظر من خلال الباب .. إلى الضوء الذى يلمع هناك على الجسر .. والذى جلس فى انتظاره ..
وسألته المرأة وقد بدا لها أن الرجل يحمل نفسه أكثر مما يطيق من الجهد ..
-      وحصلت على كثير .. يا عمى صالح ..
-      أبدًا .. يا بنتى .. ثمانين جنيها .. من مائتين .. بعد تعب طويل ..
-  إحمد ربك .. إننا لسنا فى الموسم .. وأنا نفسى لن أعطيك إلا خمسة جنيهات .. وترسل لى السجائر والتمباك .. يوم الخميس .. كالمعتاد ..
-      حاضر .. وإن كنت فى حاجة إلى هذه الجنيهات إبقيها ..
-      لا .. كتر خيرك .. سآتيك بها ..
ودخلت من باب صغير جانبى وصعدت إلى مسكنها وكان فوق بناية المقهى ..
وجلس صالح فى مكانه يشرب الشاي بتؤدة وعيناه إلى الظلمة التى أخذت تشتد فى الخارج .. وكانت الريح تئن .. وفروع النخيل تهتز مع الريح .. وبدا له أن كل شيء يسبح فى ظلمة رهيبة ليس لها بداية ولا نهاية .. وشعر بالخوف يزحف على قلبه لأول مرة ويعصره ..
       ورأى الغلام جالسًا فى زاوية من المقهى وكان لم يعره باله ..
       فقال له :
-      إجرى .. إنتظر السيارة .. على الجسر يا مرزوق .. ربما مرت ولا نشعر بها ..
-      حاضر ..
وخرج الغلام
وعاد الرجل ينتظر ويحس بثقل الانتظار على نفسه .. وكانت حليمة قد هبطت من أعلى .. وقدمت له الورقة المالية وهى تبتسم فأخرج محفظته ووضعها فيها .. ثم أعاد كل شيء إلى جيب سترته ..
وقال للمرأة :
-      يبقى كم ..؟
-      عشرة ..
- بالضبط .. أنت تعرفين الحساب أحسن من شعبان .. والآن هاتى لى كوبا آخر من الشاى .. لأن السيارة كما يبدو ستتأخر ..
-      أنا أعرف أنك شريب ..
- أنا أشرب منه الكثير .. وهو لا يؤذينى .. كما يؤذينى الطعام .. إنه غذائى الوحيد فى الصباح .. والمساء ..
- يبدو لى أنك طعنت فى السن .. لأن الشاى طعام العجائز ..
- وأنت ..؟
- فى عز صباى ..!
- الشيء الواضح لى يا حليمة .. أنك كنت فتنة بين النساء .. فى صباك .. وتقاتل عليك الرجال .. وأخيرًا فاز شعبان ..
- هذا صحيح .. وهذه قسمتى .. ولم يكن لى الخيار ..
واكتسى وجهها بأسى لا يعرف سببه ..
ولم يكن فى شعبان عيب يراه .. ولكنه أدرك أن المرأة أصدق منه فى فهم الرجال والحكم عليهم فصمت ولم يعقب ..
وكان مرزوق .. قد عاد وهو يردد ..
-      السيارة متأخرة الليلة .. حصل لها عطل ..
فصفعته المرأة وهى تقول له :
-      عد وانتظرها .. ولماذا رجعت .. ربما مرت فى هذه الساعة ..
وجرى الغلام سريعًا .. يجتاز عرائش النخيل .. ونظر صالح أفندى .. إلى المرأة وهى تسوى طرحتها على رأسها .. بعد رنين الكف على خد الغلام .. وتعجب من خشونتها التى بدت فجأة .. وقال لنفسه ربما هى هكذا لأنها لم تنجب ذرية ولم تشعر بالأمومة أو لأنها فقدت أبناءها وهم صغار .. فلم ير بجوارها .. لطول تردده عليها .. أطفالاً عندها وكان يعرف أن مرزوق هو صبى يساعد زوجها فى المقهى ..
وطال انتظار صالح أفندى للسيارة .. وأخذ يدخن ويطرد عنه شعور القلق بالتحدث مع حليمة .. وأخذ يحدثها عن زوجته وأولاده .. وابنه الكبير محمد الذى أدخله الجامعة فى هذه السنة وسافر إلى القاهرة منذ شهرين ..
وكانت السعادة تغمر قلبه .. وأفاض فى الحديث .. وكان يغلق عينه فى أحيان كثيرة ويعبر بصوت واضح رغم خفوته .. عن أمانيه الباقية فى الحياة بأن يعيش حتى يزوج ابنته فتحية ..
وتأثرت المرأة من عاطفة الأبوة التى تسيطر على مشاعره .. وابتهجت لابتهاجه .. وتطلعت من فتحة الباب .. فرأت الجهامة المطبقة .. وأصوات الأشباح التى تعوى كل ليلة فى بساتين النخيل ..
وقال صالح أفندى وهو ينظر إلى ساعته وقد رآها تتجاوز الثامنة ..
- سآخذ السيارة .. الأخرى .. التى تمر من " المشابك " .. ربما تعطلت هذه السيارة حقًا .. أو لم تجد ركابها .. فبقيت فى المركز ..
-      إن الطريق طويل إلى هناك ..
-      لابد أن أذهب .. لألحق آخر سيارة .. بقى عليها نصف ساعة فقط ..
-      ولماذا .. لا تبقى معنا .. إلى الصباح .. سيرجع شعبان بعد قليل ..؟
- لا أستطيع أن أبقى مهما كانت الظروف .. ستشغل زوجتى والأولاد وسأجدها ساهرة فى انتظارى مهما تأخرت ..
-      لماذا ..؟
- إن الحوادث فى الريف تروعهم .. ولقد تأخرت فى درنكة .. الأحد الماضى فظلت واقفة تنتظرنى على الباب .. إلى الساعة الواحدة صباحًا ..
       - إذن اذهب ..
       قالت هذا بهدوء ..
       وكانت تعرف شعور المرأة .. وهى تنتظر رجلها .. لكم جزعت على شعبان وهو يتأخر فى الليل .. وكم من الليالى تفطر قلبها .. وهى تسمع الرصاص يدوى ..
       وقالت بعد أن رأت الرجل ينهض على قدميه ..
-      ألا تنتظر عودة مرزوق .. ليصاحبك .. إلى المشابك ..؟
-      لا .. سأمشى وحدى ..
-      ألا تخاف ..؟
-      معى مسدسى ...
وأراها المسدس الصغير فى جيب سترته ..
وابتسمت المرأة .. وخرجت تودعه وتناول يدها ومضى وحده .. ولكن بعد عشرين خطوة وهو يقترب من عرائش النخيل الصغير على الجانبين شعر بالفزع يشل حركته .. فتوقف ورأته حليمة .. وكانت لا تزال فى مكانها .. فتناولت بندقية زوجها من وراء الباب وجرت إليه ..
وأحس بها بجانبه وفى يدها البندقية .. وكان لم يرها تمسك بها من قبل أبدًا فابتسم وقال لها ..
-      جئت ..
-      أجل وسأمضى معك إلى المشابك ..
-      لا .. لا .. هذا كثير .. يكفى .. أن نخرج من هذه الأشجار .. إنها ترعبنى حقاً ..
وضحكت من خوفه .. ولكنها التمست له العذر .. وكان حذاؤه قد أخذ يغوص فى التراب .. والريح الباردة تلسع وجهه .. وعيناه .. تضل فى هذا التيه .. وأسلم مقوده للمرأة ..
 وعجب إذ كانت فى مثل طوله وأكثر .. منتصبة القامة سريعة الخطوة .. جسورة كأن الليل خلق لها ..
وكانت قد تركت الطرحة فى البيت واكتفت بأن عصبت رأسها بمنديل .. وانتعلت خفًا خفيفًا كأنها تستعد للنضال ..
وشعر بالاطمئنان وهى بجواره وبالخوف كله يذهب من قلبه ..
وبدآ يخرجان من وسط الأعراش .. ويستويان على الطريق الصاعد .. المؤدى إلى الجسر ..
ورأى مزارع القصب والبرسيم على الجانبين .. والأنوار تلمع فى وسط الحقول ثم تخبو .. وسمع نباح الكلاب .. وفزعها كأنها تقاتل أشباحًا فى الظلام ..
ثم سكت النباح وخيم السكون ..
وقال للمرأة وهما يقتربان من موقف السيارات :
-      يكفى إلى هنا ..
-      ألا أنتظر معك حتى تجئ السيارة ..؟
-      لا .. لا .. هذا يكفى ..
وأحست بأنها أدخلته فى منطقة الأمان فعلاً ..
فقالت له :
-      مع السلامة ..
وأخذت تستقبل من طريقها ما استدبر .. وقبل أن تجتاز عتبة المقهى سمعت دوى رصاصة فجفلت .. وأرسلت بصرها إلى الخارج .. لحظات .. ثم عادت وردته بعد أن أبعدت عن رأسها الخاطر الرهيب الذى ساورها .. وأدركت أن الرصاص مألوف فى الحقول فى مثل هذه الساعة من الليل ..
***
       وعاد مرزوق وجلس معها ساعة ثم صرفته ليعود إلى أمه فى القرية ..
       وجلست تتوقع عودة زوجها .. ولما يئست من عودته .. أخذت تجمع الأشياء التى على الرف .. وتصعد بها إلى القاعة العليا ..
       ثم خففت من ضوء السراج .. ودارت حول بيت الدجاج .. والغنم المربوطة فى ناحية من المكان لتقدم لها شيئًا من الطعام .. ولمحت وهى تستدير شبحًا يخرج من بين النخيل ويصعد إليها فوقفت ترقبه .. حتى اقترب الرجل .. وقال بصوت خشن نوعًا ..
-      عندك ماء .. يا ست .. عطشان ..
فناولته الكوز .. وهى صامتة .. وعيناها تستكشفان كنهه .. وأدركت من أول وهلة أنه غريب وليس من فلاحى قريتهم .. أو القرى المجاورة لها .. وأنه يعبر المكان لأول مرة ..
       وكان ينظر بعينه إلى الداخل .. ويده ممسكة ببندقية قصيرة .. ويحاول أن يأخذ ببصره كل شيء فى لحظة ..
-      وعندك سجائر ..؟
-      نعم ..
-      أعطنى علبة .. " معدن " ..
ودخلت المرأة .. ودخل الرجل وراءها .. وهو لا يزال يدير بصره فى المكان .. ولمح إبريق الشاى .. والنار .. لا تزال مشتعلة فى الموقد ..
وجلس على الحصير .. وعينه على الباب .. ووضع البندقية جانبًا .. ومد رجله .. ولاحظت أن ساقه مجروحة .. وينز منها الدم ..
فسألته وهى تعد له الشاى ..
-      هل جرحت ..؟
-      أجل .. دخل جذر من جذور القصب فى رجلى ..
- فنظرت إلى حذائه المضفر .. وأدركت أن كذبته بلقاء .. ولكنها لم يظهر عليها ما ينكر كلامه ..
وقالت برقة :
-      الأحسن أن تغسل الجرح .. إنه يدمى ..
-      لقد حشوته بالتراب ..
-      إغسله واحشه بالبن .. سأجئ لك بحفنة منه ..
-      كتر خيرك ..
وظهر عرجه .. وهو يعبر المجاز .. إلى الداخل .. وناولته قدر الماء .. ثم رفعت له السراج ولكن لما عرى فخذه .. حولت وجهها عنه .. ووضعت السراج فى الطاقة .. وناولته البن .. فحشا الجرح .. وربطه بقطعة من القماش قدمتها له .. وعاد إلى مكانه ينظر إليها فى ثبات ..
وأخذ قلبها يحدثها .. وهى تستشف نظراته .. وسألته .. وهى تقدم له الشاى ..
-      هل أنت من الأطاولة ..؟
-      لا .. من العوامر ..
-      وأين كنت فى الليل ..؟
-      كنت فى سوق الإثنين .. لأشترى جاموسة ..
-      ولم تجد ..
- وجدت .. ولكن الجاموس .. غال .. هناك .. الجاموسة .. بتسعين ومائة .. وليس معى هذا القدر من المال .. فقلت أعود مرة أخرى فى السوق المقبل .. وربما وجدت الرخيص ..
-      وماذا تزرعون عندكم ..؟
-      نزرع الشعير والقمح .. والبرسيم .. ولكننا لا نزرع قصبًا ..
-      أرضكم ضعيفة ..؟
- بالطبع .. ليست مثل أرضكم .. هنا .. الخير كتير .. ولا يوجد عندنا قهاوى مثل هذه ..
- إنها لازمة على طريق السيارات ..
- وهل تمر سيارة فى هذه الساعة من الليل ..؟
- لا .. إذهب هناك .. إلى المشابك .. عند القنطرة .. إن كنت ترغب فى ركوبها ..
- لقد تعبت من السير .. إن الجرح يدمى ..
- إبق هنا إلى الصباح .. إذا شئت ..
- كتر خيرك .. لابد أن أمضى ..
وكان فى صوته جرس أيقظ حواسها .. ونبهها إلى شيء لم تكن تتوقعه أبدًا .. وزاد توجسها منه .. وكان قد ألقى سلاحه بجانبه .. فى استخفاء وتحد ..
وسألها :
-      هل تعيشين هنا .. وحدك ..؟
-      أجل .. وعندى غلام .. ذهب إلى أمه فى القرية ..
-      وأين زوجك ..؟
-      ليس لى زوج ..
-      ألا تخافين ..؟
-      من ماذا ..؟
       ان يسرق الفلاحون .. هذه الأشياء كلها .. الشاى والسكر .. والبن .. والنعجات وحتى الدجاج ..!
-      فعرفت نظراته .. وأدركت أنه أحصى كل شيء فى لحظة ..
-      ان الفلاحين .. لا يسرقون مثل هذه الأشياء ..
-      لماذا ..؟
-      لأنها تنفعهم .. وانا لا أمنعها عنهم ..
       ودار بوجهه .. وأشعل لنفسه سيجارة ورأته لا يتجاوز السابعة والعشرين من عمره وسيما مفتول العضلات .. وإلا لما تحمل هذا التمزيق وسار به ..
       وقرنت جرحه بشيء دار فى خاطرها وارتجفت له .. ولكنها كانت تتمنى ألا يكون قد وقع .. وارتعشت لهذا الخاطر .. وخافت أن تظهر أمامه بالخوف فيطمع فيها ..
       وأبعدت كل خواطر القلق عن رأسها .. وجلست تحادثه .. ولكنه عندما وضع يده فى جيبه ليدفع حساب الشاى والسجاير سقطت محفظة على الأرض .. فأعادها إلى جيبه فى هدوء .. وعرفتها إنها محفظة الرجل الذى كان عندها منذ ساعات ..
       ولقد سرقها منه بعد أن مزقه بالرصاص ..
       وكتمت انفعالات نفسها .. وأخذت منه حسابها فى هدوء .. وذهنها يعمل بسرعة .. تملكها غيظ مستعر ..
       وسمعت من ينادى اسمها فى الخارج ..
       فألقت سمعها .. وتطلعت ..
       ورأت شيخ الخفر .. على الباب ومعه خفيران .. وكانوا يسألون عن عربة المأمور القادمة من المركز .. لأن أفنديا قتل عند المشابك ..
       وسألتهم ملتاعة :
-      من الذى قتل ..؟
-      صالح أفندى بائع الدخان ..
وارتجف قلبها ..
ونظرت إلى الرجل الذى فى الداخل بالمقهى ..
       ودخل شيخ الخفراء ومعه الخفيران يشربون الشاى قبل أن تمر سيارة المأمور ولاحظت حليمة .. أن الرجل لم يغير مجلسه .. ولم يتناول حتى بندقيته التى وضعها جانبا وجلسوا بجواره وأخذ يحدثهم فى ثبات أرعبها .. وهم ثلاثة وهو واحد وجريح ..!
       ولاحظت بعد قليل .. أنهم كانوا يخشونه .. وربما ارتعبوا ..
       كان قد طوى رجليه وتربع ينظر إليهم بعينين تبرقان تحت الضوء الشاحب الراقص فى الطاقة ..
       وبعد أن شربوا الشاى خرجوا إلى الجسر فى انتظار عربة المأمور وبقى الرجل فى مكانه مع المرأة ..
       ورأته يتجمع بعد أن ذهب الرجال وقد أمسك البندقية فى يده .. وكانت الدنيا مازالت ملفوفة فى شملة .. من الظلام .. وأشباح تبدو غائمة باهتة كأنها منظورة من خلال نقاب كثيف ..
       وكانت هى نفسها كأنها تنظر إلى الرجل من خلال نقاب ثم انقشع عنها النقاب فى لحظة .. ورأته على حقيقته .. ونسيت وسامته وشبابه .. ورأته شريرا وقاطع طريق .. ولا ينطق إلا الأكاذيب التى تجمعت فى أفواه البشر ..
-      وقالت وهى تنظر إليه من جانب وكأنها تحدث نفسها :
       هل تعرف أن الرجل الذى قتل منذ ساعة .. كان يسرع فى العودة إلى زوجته وأولاده لأنهم كانوا فى انتظاره .. وسيعود إليهم الآن محمولا على محفة .. فما أفظع الحياة ..
-      وهل تعرفينه ..؟
-      لقد كان هنا .. قبل أن تدخل .. وشرب الشاى .. من نفس الكوب ..
       وكانت عيناها تبرقان ببريق غريب أزعجه وأشاع الخوف فى نفسه .. وراقب تحركاتها .. تحت ضوء السراج .. وسألها ..
-      وكان ينتظر السيارة ..؟
-      أجل .. ثم تعجل الأمور .. وذهب إلى الجانب الأخر .. ليلاقى حتفه .. مقادير ..
ونظرت من خلال الباب ثم عادت إليه وهى تقول :
       إن الذى قتله كان يجهله تماما .. فمن الذى يقتل رجلا يسعى بيننا على معاشه منذ عشرين سنة ولا يفكر حتى فى أن يؤذى بعوضة .. وخيره على جميع صغار التجار من الفلاحين ..
-      مقادير ..!
-      أجل مقادير .. وهى فى انتظارك ..
وضحك ضحكة خشنة مجلجلة ..
-      فى انتظارى أنا ..؟
-      بالطبع ..
-      لماذا ..؟
- لأنك شرير ..
قالت هذا بدلال .. وهى تكسر رموش عينيها ..
فقال :
-      كلنا أشرار .. ومارقون ..
-      ولكنك أكثرهم شرا ..
وضحك .. وهو يرقب عينيها الذابلتين .. ولم ير أنضر من وجهها فى هذه الساعة ..
وسألها :
-      هل صحيح .. أنك تعشين هنا .. وحدك .. من غير رجل ..
-      وماذا أصنع به ..
-      يحميك .. على الأقل من الرجال ..؟
       قال هذا بصوت خافت وهو يرقبها بخبث .. وعجبت للرجل الذى بدأ يغازل .. ولا تزال بندقيته تفوح منها رائحة البارود .. والخطر يكمن له فى كل خطوة ..
وردت عليه بدلال أكثر ..
-      لست فى حاجة إلى حماية أحد ..
       وكان فى قولها رنين لم يفهمه .. وتحركت ورأى ثوبها الأسمر السابغ على جسم طويل ملفوف .. والمنديل تتدلى منه خيوط وكرات صغيرة زرقاء على جبينها ..
ولمح الرجل ضوءا يبرق فى الظلام ..
فقال :
-      سيارة .. وقد تكون سيارة المركز ..
-      وهل أنت مطارد ..؟
-      أبدا ..
-      ما الذى تخشاه منهم .. إذن ..؟
-      أخشى على البندقية .. وهى من طراز .. لا يباع ولا يشترى الآن ..
وكانت تعرف ذلك دون أن يحدثها ..
وقالت له :
-      هاتها .. لأخفيها عن العيون ..
-      أنا لا أعطى سلاحى .. لإنسان ..
-      إصعد بها إلى القاعة ..
       - لا .. لن أكون فى المصيدة .. إن قوات المركز كلها تتجمع علىّ .. وموقفى هناك وقد حـددته منذ وطـئت قدماى هذا .. المكان .. وقد أطلقت رصاصة واحدة وبقى معى الكثير ..
       وضحك ..
       لقد خذلها هذا الثعلب وشعرت بالغيظ ..
       وأخذت الأضواء الكشافة تلحس الظلام ..
       ومضى عنها فى خفة الثعـلب .. ورأته يكمن هنـاك .. بين دغل النخيل فى أعلى التل ..
       وشعروا به ..
       وبدأوا هم فى إطلاق النار .. ورد عليهم .. وسقط منهم اثنان .. وكانت تعرف أنه سيحصدهم .. لأنهم لا يعرفون مكانه بالدقة ولأن سلاحه غير السلاح الذى فى أيديهم ..
       وتناولت بندقية زوجها وأطفأت السراج ..
***
       ودفعت الباب .. وخرجت وعندما أطلقت أول طلقة كان الرجل يتصور أنها تطلق معه على الخفراء .. فتركها .. وفى الطلقة الثانية أسكتته ..
وكان كل واحد من العساكر والخفراء يتصور أنه هو الذى صرعه ..
       ولكن المرأة التى فعلت هذا رجعت إلى بيتها فى سكون وردت الباب .. وأعادت البندقية إلى مكانها ثم تقدمت فى هدوء لتشعل السراج كما كان ..
=======================================
نشرت القصة فى كتاب العربة الأخيرة سنة 1948
======================================


فهرس

اسم القصـــــة                         رقم الصفحة

العربة الأخيرة       ............................   2
رجل على الطريق        ......................    10
الشيخ عمران      .........      .   ..... ....... 20
زهور ذابلة             ..........  .............   33
البواب الأعرج     ...................  ...... .    45
نساء فى الطريق        ........................    51
هاجر        ....................................   67
الجواد الجريح   ....................          ...    69
ليلة لن أنساها   .............  ..............  ....  73
الدرس الأول    .................................    81
جسد وفنان      ...............     .............    90
الملهمة             ...........................       100
روح الفنان        ..............................     102
حارس القرية     ...............................     113
السراج       ..........................  ....        122














ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق